والفسق : الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر وتقدم في قوله تعالى ( وما يضل به إلا الفاسقين ) في سورة البقرة .
ثم يجوز أن يكون المرد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن فتكون الجملة تذييلا لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم كقوله تعالى ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق ولإفادة كون فسقهم علة في أن حقت عليهم كلمة الله ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من ( حقت ) أي كذلك الحق حقت عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) في سورة البقرة .
وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب .
( قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ) استئناف على طريقة التكرير لقوله قلبه ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) . وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال إلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن إلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها . وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل وموقع التكرير يزيده استقلالا .
والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من إلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده فلذلك أمر النبي A بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله ( الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) فصار مجموع الجملتين قصرا لصفة بدء الخلق وإعادته على الله تعالى قصر إفراد أي دون شركائكم أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها .
وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع .
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفا عند قوله ( مكانكم أنتم وشركاؤكم ) .
A E وقوله ( فأنى تؤفكون ) كقوله ( فأنى تصرفون ) . وأفكه : قلبه . والمعنى : فإلى أي مكان تقلبون . والقلب مجازي وهو إفساد الرأي . و ( أنى ) هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يحول فيها التفكير . واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضا .
( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) هذا تكرير آخر بعد قوله ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) . وهذا استدلال بنقصان إلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق ومجموع الجملتين مفيد قصر صفة الهداية إلى الحق على الله تعالى دون إلهتهم قصر إفراد كما تقدم في نظيره آنفا . ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويهم على ضعيفهم ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة أو مضمحلة .
والمراد بالحق الدين وهو الأعمال الصالحة وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح .
وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين ) وقول موسى عليه السلام ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) وقوله تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) . وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية