والفاء في قوله ( فقل ) فاء الفصيحة أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون . والفاء في قوله ( أفلا تتقون ) فاء التفريع أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم .
ومفعول ( تتقون ) محذوف تقديره تتقونه أي بتنزيهه عن الشريك .
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن . وفيه تحد لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحا ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامت عليهم الحجة بقوله ( فقل أفلا تتقون ) .
( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله ( أفلا تتقون ) فالفرع من جملة المقول .
واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق الواهب الادراك الخالق المدبر لأن اسم الإشارة قد جمعها . وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها . واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية . و ( ربكم ) خبر . و ( الحق ) صفة له . وتقدم الوصف بالحق آنفا في الآية مثل هذه .
والفاء في قوله ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع .
و ( ماذا ) مركب من ( ما ) الاستفهامية و ( ذا ) الذي هو اسم إشارة . وهو يقع بعد ( ما ) الاستفهامية كثيرا . وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لمجرد التأكيد . ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبا من إلزام أن يكون الاسم مزيدا كما هنا . وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) في سورة البقرة . وانظر ما يأتي عند قوله ( ماذا يستعجل منه المجرمون ) في هذه السورة .
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله ( إلا الضلال ) .
و ( بعد ) هنا مستعملة في معنى ( غير ) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايرة وعند انتفائه .
فالمعنى : ما الذي يكون إثر انتفاء الحق .
A E ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهم عنه تعين أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله ( إلا الضلال ) . فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما . فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل . وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل .
والفاء في ( فأنى تصرفون ) للتفريع أيضا أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال .
و ( أنى ) استفهام عن المكان أي إلى مكان تصرفكم عقولكم . وهو مكان اعتباري أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقا غير موصلة فهو يصرف من ضلال إلى ضلال . قال ابن عطية : وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا .
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله ( فسيقولون الله ) : الأولى جوابية والثانية فصيحة والبواقي تفريعية .
( كذلك حقت كلمات ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ) تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعد ما ظهر لهم من الحجج والآيات وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الازل والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه .
والمشبه به هو المشار إليه وهو حالهم وضلإلهم أي كما شاهدت حقت كلمة ربك يعني أن فيما شاهدت ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون .
وقوله ( أنهم لا يؤمنون ) بدل من ( كلمة ) أو من ( كلمات ) . والمراد مضمون جملة ( أنهم لا يؤمنون ) .
وقرأ نافع وابن عامر ( كلمات ربك ) بالجمع . وقرأها الباقون بالأفراد والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين