( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحب النار هم فيها خلدون ) عطف على جملة ( للذين أحسنوا الحسنى ) . وعبر في جانب المسيئين بفعل ( كسبوا السيئات ) دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافا للمعتزلة والخوارج .
وجملة ( جزاء سيئة بمثلها ) خبر عن ( الذين كسبوا السيئات ) . وتنكير ( سيئة ) للعموم أي جزاء كل سيئة بمثلها وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ كقول الحريري : .
" يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا أي كل ضر . وذلك العموم مغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ أو يقدر مجرور أي جزاء سيئة منهم كما قدر في قوله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) أي فعليه .
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويرهقهم قتر لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله ( كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ) .
وجملة ( ما لهم من الله من عاصم ) خبر ثان أو حال من ( الذين كسبوا السيئات ) أو معترضة . وهو تهديد وتأييس .
والعاصم : المانع والحافظ . ومعنى ( من الله ) من انتقامه وجزائه . وهذا من تعليق الفعل باسم الذات والمراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل ( حرمت عليكم الميتة ) .
وجملة ( كأنما أغشيت وجوههم ) الخ بيان لجملة ( ترهقهم ذلة ) بيان تمثيل أو حال من الضمير في قوله ( وترهقهم ) .
A E و ( أغشيت ) معدى غشي إذا أحاط وغطا فصار بإلهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسا . وتقدم في قوله تعالى ( يغشي الليل النهار ) في الأعراف وقوله ( إذ يغشيكم النعاس ) في الأنفال .
والقطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور : جمع قطعة وهي الجزء من الشيء سمي قطعة لأنه يقتطع من كل غالبا فهي فعلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية . وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب " قطعا " بسكون الطاء . وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم قال تعالى ( فاسر بأهلك بقطع من الليل ) .
وقوله ( مظلما ) حال من الليل . ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلما لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم : ليل أليل وظل ظليل وشعر شاعر فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكن ظلمته . شبهت قترة وجوههم بظلام الليل .
وجملة ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) هي كجملة ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) .
( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) هذه الجملة معطوفة على جملة ( والذين كسبوا السيئات ) باعتبار كونها معطوفة على جملة ( للذين أحسنوا الحسنى ) فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة بإجمال حالة جامعة للفريقين ثم بتفصيل حالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها .
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعا ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا فكان مقتضى الظاهر أن يقال ونحشرهم جميعا . وإنما زيد لفظ ( يوم ) في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمال عظيمة أريد التذكير به تهويلا وموعظة