والهداية : الدلالة على المقصود النافع والمراد بها هنا خلق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله ( من يشاء ) بعد قوله ( والله يدعو ) المفيد التعميم فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أن ( يهدي ) هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر وهي حصول الاهتداء بالفعل أي خلق حصوله بأمر التكوين كقوله ( فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) وهذا التكوين يقع إما في كل جزيئة من جزيئات الاهتداء على طريقة الأشاعرة وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال وشؤون الغيب خفية . وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم ) .
والصراط المستقيم : الطريق الموصل .
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) هذه الجملة بدل اشتمال من جملة ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهديا وغير مهدي . ففي هذه الجملة ذكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين ولك أن تجعلها بدل مفصل من مجمل .
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان علم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن وأن الحسنى هي دار السلام . ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة الأنعام : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ) .
والحسنى : في الأصل صفة أنثى الاحسن ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولم تتبع موصوفها .
A E وتعريفها يفيد الاستغراق مثل البشرى ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات . والمعنى : للذين أحسنوا جنس الأحوال الحسنى عندهم أي لهم ذلك في الآخرة . وبذلك تعين أن ما صدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علما بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة .
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحسنى بالمعنى الذي صار علما بالغلبة فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار فقيل : هي رضى الله تعالى كما قال ( ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ) وقيل : هي رؤيتهم الله تعالى . وقد ورد ذلك عن النبي A في صحيح مسلم وجامع الترمذي عن صهيب عن النبي A في قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة قال : فيكشف الحجاب قال : فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه . وهو أصرح ما ورد في تفسيرها .
والرهق : الغشيان . وفعله من باب فرح .
والقتر : لون هو غبرة إلى السواد . ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأئمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوف . وهو من آثار تهيج الكبد من ارتجاف الفؤاد خوفا وتوقعا .
والذلة : الهوان . والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل . والكلام مستعمل في صريحه وكنايته أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة .
وليس معنى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحا لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعا بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلا للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله ( وترهقهم ذلة ) إلى قوله ( مظلما ) .
وجملة ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) نتيجة للمقدمة فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف .
واسم الإشارة يرجع إلى ( الذين أحسنوا ) . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله ( أولئك على هدى من ربهم )