والأنفس : جمع نفس وهي الذات . ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق . يقال : هو قريشي من أنفسهم ويقال : القريشي مولاهم أو حليفهم فمعنى ( من أنفسكم ) من صميم نسبكم فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذ لا يعدون العرب ومن حالفهم وتولاهم مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم وفيه أيضا تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن ( وإنه لذكر لك ولقومك ) أي يبقي منه لكم ذكر حسن .
والعزيز : الغالب . والعزة : الغلبة . يقال عزه إذا غلبه . ومنه ( وعزني في الخطاب ) فإذا عدي بعلي دل على معنى الثقل والشدة على النفس . قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه : .
فقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا و ( ما ) مصدرية .
و ( عنتم ) : تعبتم . والعنت : التعب أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم . وهذا كقوله ( لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ) وذكر هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة . ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب . ثم إن ذلك يومي إلى أن شرعه جاء مناسبا لخلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقال ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع ( ما ) المصدرية السابكة للمصدر نكتة . وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى وذلك بما لقوه من قتل قومهم ومن الأسر في الغزوات ومن قوارع الوعيد والتهديد في القرآن . فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيرا إلى عنت معين ولا إلى عنت وقع لآن المصدر لا زمان له بل كان محتملا أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه ولكن مجيء المصدر منسبكا من الفعل الماضي يجعله مصدرا مقيدا بالحصول في الماضي ألا ترى أنك تقدره هكذا : عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيها على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم .
والحرص : شدة الرغبة في الشيء والجشع إليه . ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فهم من مقام التشريع فيقدر : على إيمانكم أو هديكم .
والرؤوف : الشديد الرأفة . والرحيم : الشديد الرحمة لأنهما صيغتا مبالغة وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو ( بالمؤمنين ) .
والرأفة : رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءوف به . يقال : رؤوف رحيم . والرحمة : رقة تقتضي الإحسان للمرحوم بينهما عموم وخصوص مطلق ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمهما مختلفة . وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم ) في سورة البقرة . والرحمة في سورة الفاتحة .
وتقديم المتعلق على عامليه المتنازعينه في قوله ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتي رأفته ورحمته بهم . وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم ولا يقال : بهم رؤوف رحيم .
والفاء في قوله ( فإن تولوا ) للتفريع على إرسال النبي A صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وان لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه . وقد دل الشرط على مقابله لأن ( فإن تولوا ) يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان .
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي A بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطبوا هم به اعتمادا على قرينة حرف التفريع فقيل له ( فإن تولوا فقل حسبي الله ) . والتقدير : فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله