وجملة ( صرف الله قلوبهم ) مستأنفة استئنافيا بيانيا لأن ما أفاده قوله ( ثم انصرفوا ) من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول A يثير سؤال من يسأل عن سبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحرموا الانتفاع بأبلغ واعظ . وكان ذلك عقابا لهم بسبب أنهم ( قوم لا يفقهون ) أي لا يفهمون الدلائل بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا .
وجعل جماعة من المفسرين قوله ( صرف الله قلوبهم ) دعاء عليهم ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم ولأنه يأباه تسبيبه بقوله ( بأنهم قوم لا يفقهون ) وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيرا يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراها لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد .
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب وأمرا للمؤمنين بالجهاد وإنحاء على المقصرين في شأنه . وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة .
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد A والتنويه بصفاته الجامعة للكمال . ومن أخصها حرصه على هداهم ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفا رحيما بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم . وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله A بقوله ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة وكذلك عادة القرآن . فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها .
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا . وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة .
فالخطاب بقوله ( جاءكم ) وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام .
والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدءهم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) وسيجيء أن المقصود العرب .
وافتتاحها بحرفي التأكيد وهما اللام و ( قد ) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولا من الله ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء ولأن في هذا التأكيد تسجيلا عليهم مرادا به الإيماء إلى اقتراب الرحيل لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه وهو تسجيل منه على المؤمنين وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين . على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى ( يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين وكقوله تعالى يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار .
والمجيء : مستعمل مجازا في الخطاب بالدعوة إلى الدين . شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر . وهو استعمال شائع في القرآن .
A E