فمعنى ( أنهم يفتنون ) أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ الله الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبي A فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم فعلموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق .
ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم أو متآلف تصيب أموالهم أو جوائح تصيب ثمارهم أو نقص من أنفسهم ومواليدهم ؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين .
وقرأ الجمهور ( أولا يرون ) بالمثناة التحتية . وقرأ حمزة ويعقوب ( أولا ترون ) بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته ما لا يخفى .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب . ولو كانت ( ثم ) للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم .
وأتي بجملة ( ولا هم يذكرون ) مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل : ولا يذكرون قصدا لإفادة التقوى أي انتفاء تذكرهم محقق .
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) عطف على جملة ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) . والظاهر أن المقصود عطف جملة ( نظر بعضهم إلى بعض ) على جملة ( فمنهم من يقول أيكم زادته هذا إيمانا ) . وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده ( أيكم زادته هذه إيمانا ) وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم .
وموجب زيادة ( ما ) بعد ( إذا ) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه .
ونظر بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذ في مجلس النبي A لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية وهي ( إذا ) . فتعين أن يكون نظر بعضهم إلى بعض حاصلا وقت نزول السورة . ويدل لذلك أيضا قوله ( ثم انصرفوا ) أي عن ذلك المجلس . ويدل أيضا على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام . وقد قال تعالى في الآية السابقة " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون " . ويدل أيضا على أنهم كاتمون تعجبهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام . فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام .
وجملة ( هل يراكم من أحد ) بيان لجملة ( نظر بعضهم إلى بعض ) لأن النظر تفاهموا به فيما هو سر بينهم ؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي ففي هذا النظم إيجاز حذف بديع دلت عليه القرينة . والتقدير : وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي A على أسرارهم أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطلع نبيه E على دخيلة أمرهم .
وزيادة جملة ( ثم انصرفوا ) لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرة ولا قربا من الإيمان بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة . وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
A E