كان جميع بلاد العرب خلص للإسلام قبل حجة الوداع فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقر نصارى العرب وكانوا تحت حكم الروم فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وضعت الجزية على أيلة وبصري وكانت تلك الغزوة إرهابا للنصارى ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلما استقر بلد للإسلام وكان تجاوره بلاد كفر كان حقا على المسلمين غزو البلاد المجاورة . ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس .
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك .
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي E لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب . ولعل في قوله ( واعلموا أن الله مع المتقين ) إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم E وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى ( وسيجزي الله الشاكرين ) .
والغلظة بكسر الغين : الشدة الحسية والخشونة وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة كقوله ( واغلظ عليهم ) . قال في الكشاف : وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر . اه .
قلت : والمقصد من ذلك إلقاء الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين .
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم . وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة . وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلطة بحيث تظهر وتنال العدو فيحس بها كقوله تعالى لموسى ( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ) . وإنما وقعت هذه المبالغة لما عليه العدو من القوة فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم وهم أصحاب عدد وعدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة .
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين إذ قد ظهر على كفرهم وهم أشد قربا من المؤمنين في المدينة . وفي هذا السياق جاء قوله تعالى ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) .
وجملة ( واعلموا أن الله مع المتقين ) تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد .
وافتتحت الجملة ب ( اعلموا ) للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى ( واعلموا إنما غنمتم من شيء ) في سورة الأنفال . والمعية هنا معية النصر والتأييد كقوله تعالى ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) . وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم .
( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) عطف على قوله ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ) وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات .
وهذه الآية زيدت فيها ( ما ) عقب ( إذا ) وزيادتها للتأكيد أي لتأكيد معنى ( إذا ) وهو الشرط لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقا بالتأكيد ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه .
ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ) . ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والأعجاز ببلاغتها . فالمراد إذا أنزلت سورة ما من القرآن . وضمير ( فمنهم ) عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله ( وأما الذين في قلوبهم مرض ) ولما في قوله قبل هذا ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) من التعريض بالمنافقين كما تقدم فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض .
A E