وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين . والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة .
A E والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي أي كونه نهيا جازما يقتضي التحريم . وذلك أنه كما كان النفر للغزو واجبا لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبا لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للامة أيضا فأفاد مجموع الكلامين أن النفر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو . وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل ( انفروا ) أو تخصيص للعموم الذي في ضمير ( انفروا ) . ولذلك كانت هذه الآية أصلا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبا على الكفاية أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب . وأشعر نفي وجوب النفر على جميع المسلمين وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عددا من الذين يبقون للتفقه والإنذار وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر وأن البقية باقية على الأصل فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزو وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع وأن ذلك سواء . ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة .
ولو لا : حرف تحضيض .
والفرقة : الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن ؛ فالقبيلة فرقة وأهل البلاد الواحدة فرقة .
والطائفة : الجماعة ولا تتقيد بعدد . وتقدم عند قوله ( فلتقم طائفة منهم معك ) في سورة النساء .
وتنكير ( طائفة ) مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية . وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية .
والتفقه : تكلف الفقاهة وهي مشتقة من فقه " بكسر القاف " إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقه . فالفقه أخص من العلم ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله ( لا تفقهون تسبيحهم ) ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته فقاهة فهو فقيه .
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه أي الفهم في الدين . وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة ولذلك جاء في الحديث الصحيح ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم .
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد .
والإنذار : الإخبار بما يتوقع منه شر . والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة . ومنه النذير . وتقدم في قوله تعالى ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) في سورة البقرة . فالإنذار هو الموعظة وإنما اقتصر عليه لأنه أهم لأن التخلية مقدمة على التحلية ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده . ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين .
وحذف مفعول ( يحذرون ) للتعميم أي يحذرون ما يحذر وهو فعل المحرمات وترك الواجبات . واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير وقد علمت أنه يفيد الأمرين .
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) A E