وانتصب ( أحسن ) على نزع الخافض أي عن أحسن ما كانوا يعملون أو بأحسن ما كانوا يعملون كقوله تعالى ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ) وأما قوله ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) فالظاهر أنه من غير هذا القبيل وأن ( أجر ) مفعول مطلق .
وفي ذكر ( كانوا ) والإتيان بخبرها مضارعا إفادة أن مثل هذا العمل كان ديدنهم .
( وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضا على الجهاد وتنديدا على المقصرين في شأنه وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله A فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جندا وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلا حتى تقلص ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المدن التي فتحوها ووكلوا أمر الدولة إليهم .
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله A في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يذكر عقبها نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله A للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام .
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) .
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشئ عن قوله ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا ثم عن قوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا ) الخ . ومعنى ( أن يتخلفوا ) هو أن لا ينفروا فناسب أن يذكر بعده ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) .
والمراد بالنفير في قوله ( لينفروا ) وقوله ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفر كلهم .
فضمير ( ليتفقهوا في الدين ) يجوز أن يعود على قوله ( المؤمنون ) أي ليتفقه المؤمنون . والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر كما اقتضاه قوله ( فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) فهو عام مراد به الخصوص .
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوم من الكلام من قوله ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) لأن مفهومه وبقيت طائفة ليتفقهوا في الدين فأعيد الضمير على ( طائفة ) بصيغة الجمع نظرا إلى معنى طائفة كقوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) على تأويل اقتتل جمعهم .
ويجوز أن يكون المراد من النفر في قوله ( لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) نفرا آخر غير النفر في سبيل الله وهو النفر للتفقه في الدين وتكون إعادة فعل ( ينفروا ) و ( نفر ) من الاستخدام بقرينة قوله ( ليتفقهوا في الدين ) فيكون الضمير في قوله ( ليتفقهوا ) عائدا إلى ( طائفة ) ويكون قوله ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) تمهيدا لقوله ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة )