و ( خلفوا ) بتشديد اللام مضاعف خلف المخفف الذي هو فعل قاصر معناه أنه وراء غيره مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء . والمقصود بقي وراء غيره . يقال : خلف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشي يخلف بضم اللام في المضارع فمعنى ( خلفوا ) خلفهم مخلف أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم . فيجوز أن يكون ( خلفوا ) بمعنى خلفوا أنفسهم على طريقة التجريد . ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيا استعير لتأخير البت في شأنهم أي الذين خلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله A ولا أيسهم من التوبة كما أيس المنافقين . فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء . وبهذا التفسير فسره كعب بن مالك في حديثه المروي في الصحيح فقال : وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه . اه .
يعني ليس المعنى أنهم خلفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلفهم أحد أي جعلهم خلفا وهو تخليف مجازي أي لم يقض فيهم . وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي A أو الله تعالى .
وبناء فعل ( خلفوا ) للنائب على ظاهره فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم .
وتعليق التخليف بضمير " الثلاثة " من باب تعليق الحكم باسم الذاتز والمراد : تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السياق مثل ( حرمت عليكم الميتة ) .
وهذا الذي فسر كعب به هو المناسب للغاية بقوله ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف وليس غاية لتخلفهم عن الغزو لأن تخلفهم لا انتهاء له .
وضيق الأرض : استعارة أي حتى كانت الأرض كالضيقة عليهم أي عندهم . وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم . فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح : .
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل وقوله ( بما رحبت ) حال من ( الأرض ) . والباء للملابسة أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة . ( وما ) مصدرية .
و ( رحبت ) اتسعت أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة .
وضيق أنفسهم : استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق . ولذلك يقال للمحزون : ضاق صدره وللمسرور : شرح صدره .
والظن مستعمل في اليقين والجزم وهو من معانيه الحقيقية . وقد تقدم عند قوله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) في سورة البقرة وعند قوله تعالى ( وإنا لنظنك من الكاذبين ) في سورة الأعراف أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يوحي به إلى رسوله أي التجأوا إلى الله دون غيره . وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه .
وقوله ( ثم تاب عليهم ) عطف على ( ضاقت عليهم الأرض ) وما بعده أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده .
و ( ثم ) هنا للمهلة والتراخي الزمني وليست للتراخي الرتبي لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق وهو مغن عن جواب ( إذا ) لأنه يفيد معناه فهو باعتبار العطف تنهية للغاية وباعتبار المعطوف دال على الجواب .
واللام في ( ليتوبوا ) للتعليل أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب أي ليدوموا على التوبة فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر .
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا إذ لا يناسب مقام التنويه بتوتتة عليهم . وجملة ( إن الله هو التواب الرحيم ) تذييل مفيد للامتنان .
( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) A E