ومعنى ( وما كان الله ليضل قوما ) أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها أي يتجنبوها . فهنالك يبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السلام " فلا تسألني ما ليس لك به علم " ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل .
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي A ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة لأن الله لا يؤاخذ قوما هداهم إلى الحق فيكتبهم ضلالا بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيرها كلاما جامعا تذييلا .
وجملة ( إن الله بكل شيء عليم ) تذييل مناسب للجملة السابقة ووقوع ( إن ) في أولها يفيد معنى التفريع . والتعليل مضمون للجملة السابقة وهو أن الله لا يضل قوما بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق .
( إن الله له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله ( إن الله بكل شيء عليم ) ولذلك فصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليما بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضي إلى إضاعة شؤونها .
فافتتاح الجملة ب ( إن ) مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن ( إن ) لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل .
ومعنى الملك : التصرف والتدبير . وقد تقدم عند قوله تعالى ( ملك يوم الدين ) .
وزيادة جملتي ( يحيي ويميت ) لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره .
وعطف جملة ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم ولإعلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرم . وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم .
وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى ( قل أغير الله أتخذ وليا ) في أول سورة الأنعام .
والنصير : الناصر . وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى ( ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) في سورة البقرة .
( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم بهم رءوف رحيم ) انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده فالجملة استئناف ابتدائي .
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية .
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .
وتقديم النبي A في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي A قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ومعنى ( تاب ) عليه : غفر له أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أو لم يكنه كقوله تعالى ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ) أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي A " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " .
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .
A E