وقوله ( إلا أن تقطع قلوبهم ) استثناء تهكمي . وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) أي يبقى ريبة أبدا إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمقطعة .
وجملة ( والله عليم حكيم ) تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق . وهو أن يكون ذلك البناء سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور ( تقطع ) بضم التاء . وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ( تقطع ) بفتح التاء على أن أصله تتقطع . وقرأ يعقوب ( إلى أن تقطع ) بحرف ( إلى ) التي للانتهاء .
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العسرة ليكون توطئة وتمهيدا لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم وإنباء الذين أضمروا الكفر نفاقا بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله A . والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهما ابتداء من قوله ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) الآيات وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار .
وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة .
وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل كما سيأتي في قوله ( وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ) وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية .
والاشتراء : مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد كما دل عليه قوله ( وعدا عليه حقا ) بمشابهة الوعد الاشتراء في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر .
ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صيغ الاشتراء أدخلت هنا في ( بأن لهم الجنة ) لمشابهة هذا الوعد الثمن . وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها .
والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة . وهو المناسب لقوله بعد ( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) .
ويكون معنى قوله ( وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل ) ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختم الرسالة . وهو ما أشار إليه قوله تعالى ( والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل إلى قوله ليغيظ بهم الكفار ) .
ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله ( في التوراة والإنجيل ) وحينئذ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من اتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب . فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز وبذلك يكون فعل ( يقاتلون ) مستعملا في حقيقته ومجازه .
واللام في ( لهم الجنة ) للملك والاستحقاق . والمجرور مصدر والتقدير : بتحقيق تملكهم الجنة وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلا كان هذا البيع من جنس السلم .
وجملة ( يقاتلون في سبيل الله ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول : كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم ؟ فكان جوابه ( يقاتلون في سبيل الله ) الخ .
A E