والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغفران والكفران اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء . ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة . وهو هنا مطلق على المفعول أي المبني .
وما صدق ( من ) صاحب البناء ومستحقه فإضافة البنيان إلى ضمير ( من ) إضافة على معنى اللام .
وشبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء فاستعير له فعل ( أسس ) في الموضعين .
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية ورمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء . وفهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفا جرف هار وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرف جرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية . وحرف الاستعلاء ترشيح .
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المؤسس على شفا جرف هار بساكنه في هوة . وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه . فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها . ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه . فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذكر في مقابله علم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة كما دلت عليه المقابلة وأن البنيان الثاني لم يحصل غرض بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد وكان عدم ثباته مفضيا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك .
والشفا بفتح الشين وبالقصر : حرف البئر وحرف الحفرة .
والجرف بضمتين : جانب الوادي وجانب الهوة .
وهار : اسم مشتق من هار البناء إذا تصدع فقيل : أصله هور بفتحتين كما قالوا خلف في خالف . وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة والفتح ما قبلها فقلبت ألفا وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفا . وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم : شاكي السلاح أصله شائك . ورجل صات عالي الصوت أصله صائت . ويدل لذلك قولهم : انهار ولم يقولوا انهري . وهر مبالغة في هار .
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل ( أسس ) في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع ( بنيانه ) في الموضعين . وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب ( بنيانه ) في الموضعين .
وقرأ الجمهور ( جرف ) بضم الراء . وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف بسكون الراء .
وجملة ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) تذييل وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم .
( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) جملة ( لا يزال بنيانهم ) يجوز أن تكون مستأنفة لتعداد مساوي مسجد الضرار بذكر سوء عواقبه بعد أن ذكر سوء الباعث عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهي الله رسوله عن الصلاة فيه وأمره بهدمه لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه فسلب عنه حكم المساجد ولذلك أمر رسول الله A بهدمه . ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر .
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن ( الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) كأنه قيل : لا تقم فيه ولا يزال ريبة في قلوبهم ويكون إظهار لفظ ( بنيانهم ) لزيادة إيضاحه . والرابط هو ضمير ( قلوبهم ) .
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعله الله سببا لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم .
وجعل البنيان ريبة مبالغة كالوصف بالمصدر . والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم . والريبة : الشك فإن النفاق شك في الدين لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين .
A E