وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي A سئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال : هو مسجدكم هذا . يعني المسجد النبوي بالمدينة . وثبت في الصحيح أيضا أن النبي A بين الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء . وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدكم لقوله ( فيه رجال ) .
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) المسجد الذي هذه صفته لا مسجدا واحدا معينا فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين المسجد النبوي ومسجد قباء فأيهما صلى فيه رسول الله A في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار كان ذلك أحق وأجدر فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مسجدهم ومن مطاعنهم أيضا ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين . وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبه .
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله A إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام . وذلك ما انتزعه السهيلي في الروض الأنف في فصل تأسيس مسجد قباء إذ قال : " وفي قوله سبحانه ( من أول يوم ) " وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه " من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمن فيه النبي A فوافق هذا ظاهر التنزيل " .
وجملة ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله A وبمسجد قباء . وجاء الضمير مفردا مراعاة للفظ ( مسجد ) الذي هو جنس كالإفراد في قوله تعالى ( وتؤمنون بالكتاب كله ) .
وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك . وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدار قطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله A في هذه الآية ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) فقال : يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم ؟ قالوا : " إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء . قال : هو ذلك فعليكموه " فهذا يعم الأنصار كلهم . ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله A سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضا من الأنصار فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار .
وأطلقت المحبة في قوله ( يحبون ) كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئا ممكنا يعمله لا محالة . فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقربا إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها بحيث صارت الطهارة خلقا لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم .
وجملة ( والله يحب المطهرين ) تذييل . وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقا يحبه الله تعالى . وكفى بذلك تنويها بزكاء أنفسهم .
( أفمن أسس بنينه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنينه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) تفريع على قوله ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسس على التقوى بالصلاة فيه .
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقا بالصلاة فيه بعد النهي لأن صلاة النبي A لو وقعت لأكسبت مقصد واضعيه رواجا بين الامة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم .
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير .
والاستفهام تقريري .
والتأسيس : بناء الأساس وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص .
A E