والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجدا قرب مسجد قباء لقصد الضرار وهم طائفة من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف من أهل العوالي . كانوا اثني عشر رجلا سماهم ابن عطية . وكان سبب بنائهم إياه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين . ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة . ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجدا ليخلصوا فيه بأنفسهم ويعدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة . فانتدب لذلك اثنا عشر رجلا من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعة بن زيد وغيرهم فبنوه بجانب مسجد قباء وذلك قبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيرا .
والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر أي ضرارا لأهل الإسلام . والتفريق بيم المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غنم وبني سالم عن قباء .
والأرصاد : التهيئة . والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب لأنه حارب رسول الله A مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازن فقوله ( من قبل ) إشارة إلى ذلك أي من قبل بناء المسجد .
وجملة ( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) معترضة أو في موضع الحال . والحسنى : الخير .
وجملة ( والله يشهد إنهم لكاذبون ) معترضة .
وجملة ( لا تقم فيه أبدا ) هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمنا . والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام .
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي A فيه تكسبه يمنا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين . فلما كانت صلاة النبي A فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه . وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى . وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ولذلك أمر رسول الله A عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي ومالك بن الدخشم ومعن بن عدي فقال : " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه " ففعلوا . وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السقف والجذوع التي تجعل له أعمدة .
وقوله ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه وهذا أدب نفساني عظيم .
وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول A بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع فقوله ( أحق ) وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقا بصلاته فيه أصلا .
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمجازاتهم ظاهرا في دعوتهم النبي A للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه فيعرف من وصفه بأنه ( أسس على التقوى ) أن هذا أسس على ضدها .
A E