ولما أطلق الله الولاية بينهم احتمل حملها على أقصى معانيها وإن كان موردها في خصوص ولاية النصر فإن ذلك كورود العام على سبب خاص قال ابن عباس : " أولئك بعضهم أولياء بعض " يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام حتى أنزل الله قوله ( وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أي في الميراث فنسختها وسيأتي الكلام على ذلك . فحملها ابن عباس على ما يشمل الميراث فقال : كانوا يتوارثون بالهجرة وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر فنسخ الله ذلك بقوله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) . وهذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن . وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وهو قول أبي حنيفة وأحمد وقال كثير من المفسرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتدادا بأنها خاصة بهذا الغرض وهو قول مالك بن أنس والشافعي .
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة . ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار . قال ابن عباس : كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه " وهو مؤمن " ولا يرث الأعرابي المهاجر أي ولو كان عاصبا .
وقوله تعالى ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ) جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله آية واحدة نهايتها قوله تعالى ( والله بما تعملون بصير ) .
فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك وأن وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك فلما بين أول الآية ما لأصحاب الوصفين : الإيمان والهجرة من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث فبينت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرئي من ولايتهم حتى يهاجروا فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلا إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم .
وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا دليل على أنهم معتبرون مسلمين ولكن الله أمر بمقاطعتهم حتى يهاجروا ليكون ذلك باعثا لهم على الهجرة .
( والولاية ) بفتح الواو في المشهور وكذلك قرأها جمهور القراء وهي اسم لمصدر تولاه وقرأها حمزة وحده بكسر الواو . قال أبو علي : الفتح أجود هنا لأن الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة . وقال الزجاج : قد يجوز فيها الكسر لأن في تولي بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة كالقصارة والخياطة وتبعه في الكشاف وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أن الفتح هنا أجود . وما قاله أبو علي الفارسي باطل والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها .
والظرفية التي دلت عليها ( في ) من قوله تعالى ( وإن استنصروكم في الدين ) ظرفية مجازية تؤول إلى معنى التعليل أي : طلبوا ان تنصروهم لأجل الدين أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم لأن نصرهم للدين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصره وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفر داعي القتال فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد .
و ( عليكم النصر ) من صيغ الوجوب أي : فواجب عليكم نصرهم وقدم الخبر وهو ( عليكم ) للاهتمام به .
و ( أل ) في ( النصر ) للعهد الذكري لأن ( استنصروكم ) يدل على طلب نصر والمعنى : فعليكم نصرهم .
A E