والمراد بالخير محبة الإيمان والعزم عليه أي : فإذا آمنتم بعد هذا الفداء يؤتكم الله خيرا مما أخذ منكم . وليس إيتاء الخير على مجرد محبة الإيمان والميل إليه كما أخبر العباس عن نفسه بل المراد به ما يترتب على تلك المحبة من الإسلام بقرينة قوله ( ويغفر لكم ) وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان : لأن ذلك لم يدعوه ولا عرفوا به قال ابن وهب عن مالك : كان أسرى بدر مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأقاموا .
A E و ( ما أخذ ) هو مال الفداء والخير منه هو الأوفر من المال بأن ييسر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أموال الغنائم وغيرها . فقد أعطى رسول الله A العباس بعد إسلامه من فيء البحرين . وإنما حملنا الخير على الأفضل من المال لأن ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلا في خصائص النوع ولأنه عطف عليه قوله ( ويغفر لكم ) وذلك هو خير الآخرة المترتب على الإيمان لأن المغفرة لا تحصل إلا للمؤمن .
والتذييل بقوله ( والله غفور رحيم ) للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم لأنها مغفرة شديد الغفران رحيم بعباده فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوة المغفرة وكثرتها مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعظم المغفرة لكل واحد منهم .
وقرأ الجمهور ( من الأسرى ) بفتح الهمزة وراء بعد السين مثل أسرى الأولى وقرأها أبو عمرو وأبو جعفر " من الأسارى " بضم الهمزة وألف بعد السين وراءه فورودهما في هذه الآية تفنن .
( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ) الضمير في ( يريدوا ) عائد إلى من في أيديكم من الأسرى . وهذا كلام خاطب به الله رسوله A اطمئنانا لنفسه وليبلغ مضمونه إلى الأسرى ليعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله . وفيه تقرير للمنة على المسلمين التي أفادها قوله ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ) فكمل ذلك الإذن والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال بأن الله يمكن المسلمين منهم مرة أخرى كما أمكنهم منهم في هذه المرة أي : أن ينووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتك وإنما وعدوا بذلك لينجوا من القتل والرق فلا يضركم ذلك لأن الله ينصركم عليهم ثاني مرة . والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة .
فالعهد الذي أعطوه هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه .
وخيانتهم الله التي ذكرت في الآية يجوز أن يراد بها الشرك فإنه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) الآية فإن ذلك استقر في الفطرة وما من نفس إلا وهي تشعر به ولكنها تغالبها ضلالات العادات واتباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدم .
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لتكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركا فيما آتاهما ) .
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبي A حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببينة فلما تحداهم بالقرآن كفروا به وكابروا .
وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله ( فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) . وتقديره : فلا تضرك خيانتهم أو لا تهتم بها فإنهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل .
قوله ( فأمكن منهم ) سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب وبيان اشتقاقه وألم به بعضهم إلماما خفيفا بأن فسروا أمكن بأقدر فهل هو مشتق من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر . ووقع في الأساس " أمكنني الأمر معناه أمكنني من نفسه " وفي المصباح " مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة " .
والذي أفهمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتق من المكان وأن الهمزة فيه للجعل وأن معني أمكنه من كذا جعل له منه مكانا أي مقرا وأن المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مجالا للكائن فيه