وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة وبذلك كانت تشريعا للمستقبل كما ذكرناه آنفا .
( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ) الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله . وفي هذا التفريع وجهان .
أحدهما الذي جرى عليه كلام المفسرين أنه تفريع على قوله ( لولا كتاب من الله سبق ) الخ . . أي لولا ما سبق من حل الغنائم لكم لمسكم عذاب عظيم وإذ قد سبق الحل فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء . وقد روي أنه لما نزل قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) الآية . أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء فنزل قوله تعالى ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ) وعلى هذا الوجه قد سمي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي لأن الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكه المسلمون من مال العدو بالإيجاف عليهم .
والوجه الثاني يظهر لي أن التفريع ناشئ على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل وأن المعنى فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض . وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي .
ولما تضمن قوله ( لولا كتاب من الله سبق ) امتنانا عليهم بأنه صرف عنهم بأس العدو فرع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم ويتوسعوا به في نفقاتهم دون نكد ولا غصة فإنهم استغنوا به مع الأمن من ضر العدو بفضل الله . فتلك نعمة لم يشبها أذى .
وعبر عن الانتفاع الهنيء بالأكل : لأن الأكل أقوى كيفيات الانتفاع بالشيء . فإن الآكل ينعم بلذاذة المأكول وبدفع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكل قوة وصحة والصحة مع القوة لذاذة أيضا .
والأمر في ( كلوا ) مستعمل في المنة ولا يحمل على الإباحة هنا : لأن إباحة المغانم مقررة من قبل يوم بدر وليكون قوله ( حلالا ) حالا موئسة لا مؤكدة لمعنى الإباحة .
و ( غنمتم ) بمعنى فاديتم لأن الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم .
والطيب : النفيس في نوعه أي حلالا من خير الحلال .
وذيل ذلك بالأمر بالتقوى : لأن التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم .
وجملة ( إن الله غفور رحيم ) تعليل للأمر بالتقوى وتنبيه على أن التقوى شكر على النعمة فحرف التأكيد للاهتمام وهو مغن غناء فاء التفريع كقول بشار : .
" إن ذاك النجاح في التبكير وقد تقدم ذكره غير مرة .
وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيدا لرأي عمر بن الخطاب . فقد روى مسلم عن عمر قال " وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر " .
( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) استئناف ابتدائي وهو إقبال على خطاب النبي A بشيء يتعلق بحال سرائر بعض الأسرى بعد أن كان الخطاب متعلقا بالتحريض على القتال وما يتبعه وقد كان العباس في جملة الأسرى وكان ظهر منه ميل إلى الإسلام . قبل خروجه إلى بدر وكذلك كان عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب وقد فدى العباس نفسه وفدى ابني أخويه : عقيلا ونوفلا . وقال للنبي A تركتني أتكفف قريشا . فنزلت هذه الآية في ذلك وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل ولذلك قيل لهم هذا القول قبل أن يفارقوهم .
فمعنى ( من في أيديكم ) من في ملكتكم ووثاقكم فالأيدي مستعارة للملك . وجمعها باعتبار عدد المالكين . وكان الأسرى مشركين فإنهم ما فادوا أنفسهم إلا لقصد الرجوع إلى أهل الشرك