وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات هي أمارات أمره ونهيه فكل عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظ من نفع الآخرة فهو غير محبوب لله تعالى وكل عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبة من الله تعالى وهذا الفداء الذي أحبوه لم يكن يحف به من الأمارات ما يدل على أن الله لا يحبه ولذلك تعين أن عتاب المسلمين على اختيارهم إياه حين استشارهم الرسول E إنما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش حين تخيروا الفداء أي أنهم ما راعوا فيه إلا محبة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبههم على أن حقيقا عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة فإن أبا بكر قال لرسول الله A عند الاستشارة ( قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ) فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعل هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش .
ويجوز عندي أن يكون قوله ( تريدون عرض الدنيا ) مستعملا في معنى الاستفهام الإنكاري والمعنى : لعلكم تحبون عرض الدنيا فإن الله يحب لكم الثواب وقوة الدين لأنه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي لكان حفظ أنفس الناس مقدما على إسعافهم بالمال فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد . فالمعنى : يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحب إلا عرض الدنيا تحذيرا لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة .
وجملة ( والله عزيز حكيم ) عطف على جملة ( والله يريد الآخرة ) عطفا يؤذن بأن لهذين الوصفين أثرا في أنه يريد الآخرة فيكون كالتعليل وهو يفيد أن حظ الآخرة هو الحظ الحق ولذلك يريده العزيز الحكيم .
فوصف ( العزيز ) يدل على الاستغناء عن الاحتياج وعلى الرفعة والمقدرة ولذلك لا يليق به إلا محبة الأمور النفيسة وهذا يومئ إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزاء كقوله في الآية الأخرى ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها .
ووصف الحكيم يقتضي أنه العالم بالمنافع الحق على ما هي عليه لأن الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه .
وجملة ( لولا كتاب من الله سبق ) الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام السابق يؤذن بأن مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه فيستثير سؤالا في نفوسهم عما يترقب من ذلك فبينه قوله ( لولا كتاب من الله سبق ) الآية .
والمراد بالكتاب المكتوب وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير وقد نكر الكتاب تنكير نوعية وإبهام أي : لولا وجود سنة تشريع سبق عن الله . وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ فقد استشارهم النبي A فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسهم عذاب عظيم .
وهذه الآية تدل على أن الله حكما في كل حادثة وأنه نصب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر .
و ( في ) للتعليل والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة .
ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذابا في الدنيا أي : لولا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذابا كان من شأن أخذهم الفداء أن يسببه لهم ويوقعهم فيه . وهذا العذاب عذاب دنيوي لأن عذاب الآخرة لا يترتب إلا على مخالفة شرع سابق ولم يسبق من الشرع ما يحرم عليهم أخذ الفداء كيف وقد خيروا فيه لما استشيروا وهو أيضا عذاب من شأنه أن يجره عملهم جر الأسباب لمسبباتها وليس عذاب غضب من الله لأن ذلك لا يترتب إلا على معاص عظيمة . فالمراد بالعذاب أن أولئك الأسرى الذين فادوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقا فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين ولكن الله سلم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبة أخذ الثأر وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى .
A E