ومعنى هذا الكون المنفي بقوله ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) هو بقاؤهم في الأسر أي بقاؤهم أرقاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء . وليس المراد أنه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى لأن أخذ الأسرى من شؤون الحرب وهو من شؤون الغلب إذا استسلم المقاتلون فلا يعقل أحد نفيه عن النبي فتعين أن المراد نفي أثره وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين : وهما المن عليهم بإطلاقهم أو قتلهم ولا يصلح المن هنا لأنه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض فتعين أن المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده أي أن ذلك الأجدر به حين ضعف المؤمنين خضدا لشوكة أهل العناد وقد صار حكم هذه الآية تشريعا للنبي A فيمن يأسرهم في غزواته .
والإثخان الشدة والغلظة في الأذى . يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه وقد شاع إطلاقه على شدة الجراحة على الجريح . وقد حمله بعض المفسرين في هذه الآية على معنى الشدة والقوة . فالمعنى : حتى يتمكن في الأرض أي يتمكن سلطانه وأمره .
وقوله ( في الأرض ) على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية أي يتمكن في الدنيا . وحمله في الكشاف على معنى إثخان الجراحة فيكون جريا على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول A المقاتل الذي يجرح قرنه جراحا قوية تثخنه أي حتى أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع ويكون قوله ( في الأرض ) قرينة التمثيلية .
والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميل إليه وغض النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين فإن في هلاكهم خضدا لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضى السياسي العرضي على المقتضى الذي بني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . وقد كان هذا المسلك السياسي خفيا حتى كأنه مما استأثر الله به وفي الترمذي عن الأعمش : أنهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحل لهم وهذا قول غريب فقد ثبت أن النبي A استشارهم وهو في الصحيح .
وقرأ الجمهور ( أن يكون له ) بتحتية على أسلوب التذكير . وقرأه أبو عمرو ويعقوب وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث لأن ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة .
والخطاب في قوله ( تريدون ) للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أن الرسول E غير معاتب لأنه إنما أخذ برأي الجمهور . وجملة ( تريدون ) إلى آخرها واقعة موقع العلة للنهي الذي تضمنته آية ( ما كان لنبي ) فلذلك فصلت لأن العلة بمنزلة الجملة المبينة .
و ( عرض الدنيا ) هو المال وإنما سمي عرضا لأن الانتفاع به قليل اللبث فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيؤ . والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به .
والإرادة هنا بمعنى المحبة أي : تحبون منافع الدنيا والله يحب ثواب الآخرة ومعنى محبة الله إياها محبته ذلك للناس أي يحب لكم ثواب الآخرة فعلق فعل الإرادة بذات الآخرة والمقصود نفعها بقرينة قوله ( تريدون عرض الدنيا ) فهو حذف مضاف للإيجاز ومما يحسنه أن الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضر ولا مشقة بخلاف نفع الدنيا .
وإنما ذكر مع ( الدنيا ) المضاف ولم يحذف : لأن في ذكره إشعارا بعروضه وسرعة زواله .
وإنما أحب الله نفع الآخرة : لأنه نفع خالد ولأنه أثر الأعمال النافعة للدين الحق وصلاح الفرد والجماعة .
A E