والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر . لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها .
A E وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخره الله تعالى رفقا بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراما لهم على ذلك النصر المبين وسدا لخلتهم التي كانوا فيها فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر . وذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس والترمذي عن ابن مسعود ما مختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله A أن يفاديهم بالمال وعاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله A للمسلمين " ما ترون في هؤلاء الأسارى قال أبو بكر : " يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام " وقال عمر : أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها " فهوي رسول الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) الآية .
ومعنى قوله : هوي رسول الله ما قال أبو بكر : أن رسول الله أحب واختار ذلك لأنه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال وكان رسول الله A ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما . وروي أن ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين وهم في حاجة إلى المال . ولما استشار رسول الله عليه A أهل مشورته تعين أنه لم يوح الله إليه بشيء في ذلك وأن الله أوكل ذلك إلى اجتهاد رسوله E فرأى أن يستشير الناس ثم رجح أحد الرأيين باجتهاد وقد أصاب الاجتهاد فإنهم قد أسلم منهم حينئذ سهيل بن بيضاء وأسلم من بعد العباس وغيره وقد خفي على النبي A شيء لم يعلمه إلا الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين من بعد .
وربما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يوم أحد فلأجل هذا جاء قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . قال ابن العربي في العارضة : روى عبيدة السلماني عن علي أن جبريل أتى رسول الله A يوم بدر فخيره بين أن يقرب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ويقتل منكم في العام المقبل بعدتهم فقال رسول الله A : هذا جبريل يخيركم أن تقدموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم فقالوا : يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ويقتل منا في العام المقبل بعدتهم ففعلوا .
والمعنى أن النبي إذا قاتل فقتاله متمحض لغاية واحدة هي نصر الدين ودفع عدائه وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتباع الدين في قلة كان قتل الأسرى تقليلا لعدد أعداء الدين حتى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال وانتفاء خشية عود العدو إلى القوة . فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله ( ما كان لنبي ) .
والكلام موجه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء وليس موجها للنبي A لأنه ما فعل إلا ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) لا سيما على ما رواه الترمذي من أن جبريل بلغ إلى النبي A أن يخير أصحابه ويدل لذلك قوله ( تريدون عرض الدنيا ) فإن الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء وليس لرسول الله A في ذلك حظ .
فمعنى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) نفي اتخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون .
وجيء ب ( نبي ) نكرة إشارة إلى أن هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية .
ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) . وقد يجيء بمعنى أنه لا يصلح كما هنا لأن هذا الكلام جاء تمهيدا للعتاب فتعين أن يكون مرادا منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة .
A E