فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم لعشرة أمثاله وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدو الواقع في قوله ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله ( فلا تولوهم الأدبار ) الآية كما تقدم . وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاق اقتضته قلة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين ولم يصل إلينا أن المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم وقصارى ما علمنا أنهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف ثم نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التالية .
A E والتعريف بالموصول في ( الذين كفروا ) للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي : وهو سلب الفقاهة عنهم .
والباء في قوله ( بأنهم ) للسببية أي بعدم فقههم .
وإجراء نفي الفقاهة صفة ل " قوم " دون أن يجعل خبرا فيقال : ذلك بأنهم لا يفقهون لقصد إفادة أن عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم لئلا يتوهم أن نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن وهو شأن الحرب المتحدث عنه للفرق بين قولك : حدثت فلانا حديثا فوجدته لا يفقه وبين قولك : فوجدته رجلا لا يفقه .
والفقه فهم الأمور الخفية والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم .
وإنما جعل الله الكفر سببا في انتفاء الفقاهة عنهم : لأن الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر وعلى تعطيل حركات فكره فهم لا يؤمنون إلا بالأسباب الظاهرية فيحسبون أن كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلين لقولهم ( إنما العزة للكاثر ) ولأنهم لا يؤمنون بما بعد الموت من نعيم وعذاب فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلا في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح والمؤمنون يعولون على نصر الله ويثبتون للعدو رجاء إعلاء كلمة الله ولا يهابون الموت في سبيل الله لأنهم موقنون بالحياة الأبدية المسرة بعد الموت .
وقرأ الجمهور ( إن تكن ) بالتاء المثناة الفوقية نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وذلك الأصل لمراعاة تأنيث لفظ مائة . وقرأها الباقون بالمثناة التحتية لأن التأنيث غير حقيقي فيجوز في فعله الاقتران بناء التأنيث وعدمه لا سيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه . والفصل مسوغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير .
( ألأن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) .
هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدة . قال في الكشاف : وذلك بعد مدة طويلة " . ولعله بعد نزول جميع سورة الأنفال ولعلها وضعت في هذا الموضع لأنها نزلت مفردة غير متصلة بآيات سورة أخرى فجعل لها هذا الموضع لأنه أنسب بها لتكون متصلة بالآية التي نسخت هي حكمها ولم أر من عين زمن نزولها . ولا شك أنه كان قبل فتح مكة فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا محضا لأنها آية مستقلة .
و ( الآن ) اسم ظرف للزمان الحاضر . قيل : أصله أوان بمعنى زمان ولما أريد تعيينه للزمان الحاضر لازمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري فصار مع اللام كلمة واحدة ولزمه النصب على الظرفية .
وروى الطبري عن ابن عباس : " كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفر منهم وكانوا كذلك حتى أنزل الله ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) الآية فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي قال ابن عطية : وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين . وروي هذا عن ابن عباس أيضا . قلت : وكلام ابن عباس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول .
والوقت المستحضر بقوله ( الآن ) هو زمن نزولها . وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين لا أكثر رفقا بالمسلمين واستبقاء لعددهم