والتأليف بين قلوب المؤمنين منة أخرى على الرسول إذ جعل أتباعه متحابين وذلك أعون له على سياستهم وأرجى لاجتناء النفع بهم إذ يكونون على قلب رجل واحد وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة لأن ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم .
A E وهو أيضا منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن التي كانت دأب الناس في الجاهلية فكانت سبب التقاتل بين القبائل بعضها مع بعض وبين بطون القبيلة الواحدة . وأقوالهم في ذلك كثيرة . ومنها قول الفضل بن العباس اللهبي : .
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لاتنبشوا بيننا ما كان مدفونا .
الله يعلم أنا لا نحبكمو ... ولا نلومكمو أن لا تحبونا فلما آمنوا بمحمد A انقلبت البغضاء بينهم مودة كما قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) وما كان ذلك التآلف والتحاب إلا بتقدير الله تعالى فإنه لم يحصل من قبل بوشائج الأنساب ولا بدعوات ذوي الألباب .
ولذلك استأنف بعد قوله ( وألف بين قلوبهم ) قوله ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) استئنافا ناشئا عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف فهو بياني أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم .
فقوله ( ما في الأرض جميعا ) مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف ( لو ) الدال على عدم الوقوع . وأما ترتب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين لما نظم الله من ألفتهم وأماط عنهم من التباغض . ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام مما نشأت عنه حرب بعاث بينهم ثم أصبحوا بعد حين إخوانا أنصارا لله تعالى وأزال الله من قلوبهم البغضاء بينهم .
و ( جميعا ) منصوبا على الحال من ( ما في الأرض ) وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع وسيأتي بيانه عند قوله تعالى ( فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) في سورة هود .
وموقع الاستدراك في قوله ( ولكن الله ألف بينهم ) لأجل ما يتوهم من تعذر التأليف بينهم في قوله ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر .
والخطاب في ( أنفقت ) و ( ألفت ) للرسول A باعتبار أنه أول من دعا إلى الله . وإذ كان هذا التكوين صنعا عجيبا ذيل الله الخبر عنه بقوله ( إنه عزيز حكيم ) أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء محكم التكوين فهو يكون المتعذر ويجعله كالأمر المسنون المألوف .
والتأكيد ب ( إن ) لمجرد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلا على بديع صنع الله تعالى .
( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول A بأوامر وتعاليم عظيمة مهد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله من أول السورة إلى هنا فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كامل الاتساق والانتظام فإنه لما أخبره بأنه حسبه وكافيه وبين ذلك بأنه أيده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين فقد صار للمؤمنين حظ في كفاية الله تعالى رسوله A فلا جرم أنتج ذلك أن حسبه الله والمؤمنون فكانت جملة ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من من المؤمنين ) كالفذلكة للجملة التي قبلها .
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأن الله يكفي الأمة لأجله .
والقول في وقوع ( حسب ) مسندا إليه هنا كالقول في قوله آنفا ( فإن حسبك الله ) .
وفي عطف ( المؤمنين ) على اسم الجلالة هنا : تنويه بشأن كفاية الله النبي A بهم إلا أن الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاق المشترك على معنيين فهو كقوله ( إن الله وملائكته يصلون على النبي )