فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ثم نسخ ذلك بالأمر يقتالهم المشركين حتى يؤمنوا في آيات السيف . قال قتادة وعكرمة : نسخت براءة كل مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .
A E ( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) لما كان طلب السلم والهدنة من العدو قد يكون خديعة حربية ليغروا المسلمين بالمصالحة ثم يأخذوهم على غرة أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم ويحملهم على الصدق لأنه الخلق الإسلامي وشأن أهل المروءة ؛ ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد . فإذا بعث العدو كفرهم على ارتكاب مثل هذا التسفل فإن الله تكفل للوفي بعهده أن يقيه شر خيانة الخائنين . وهذا الأصل وهو أخذ الناس بظواهرهم شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) وفي الحديث : آية المنافق ثلاث منها : وإذا وعد أخلف . ومن أحكام الجهاد عن المسلمين ان لا يخفر للعدو بعهد .
والمعنى : إن كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعة فإن الله كافيك شرهم . وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) فإن ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدو وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه .
فجملة ( فإن حسبك الله ) دلت على تكفل كفايته وقد أريد منه أيضا الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال وأن لا يتوجس منه خيفة وأن ذلك لا يضره .
والخديعة تقدمت في قوله تعالى ( يخادعون الله ) من سورة البقرة .
( وحسب ) معناه كاف وهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل أي حاسبك أي كافيك وقد تقدم قوله تعالى ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) في سورة آل عمران .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي لأن معناه الصريح مما لا يشك فيه أحد .
وجعل ( حسبك ) مسند إليه مع أنه وصف وشأن الإسناد أن يكون للذات باعتبار أن الذي يخطر بالبال بادئ ذي بدء هو طلب من يكفيه .
وجملة ( هو الذي أيدك بنصره ) مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال : على أنه حسبه وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحرج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجس من ذلك الاحتمال خيفة والمعنى : فإن الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم فنصرك على العدو وهو مجاهر بعدوانه فنصره إياك عليهم مع مخاتلتهم ومع كونك في قوة من المؤمنين الذين معك أولى وأقرب .
وتعدية فعل ( يخدعوك ) إلى ضمير النبي E باعتبار كونه ولي أمر المسلمين والمقصود : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله وقد بدل الأسلوب إلى خطاب النبي A : ليتوصل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفا أمة كاملة .
والتأييد التقوية بالإعانة على عمل . وتقدم في قوله ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) في سورة البقرة .
وجعلت التقوية بالنصر : لأن النصر يقوي العزيمة ويثبت رأي المنصور وضده يشوش العقل ويوهن العزم قال علي بن أبي طالب Bه في بعض خطبه " وأفسدتم علي رأيي بالعصيان حتى قالت قريش : ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب " .
وإضافة النصر إلى الله : تنبيه على أنه نصر خارق للعادة وهو النصر بالملائكة والخوارق من أول أيام الدعوة . .
وقوله ( وبالمؤمنين ) عطف على ( بنصره ) وأعيد حرف الجر بعد واو العطف لدفع توهم أن يكون معطوفا على اسم الجلالة فيوهم أن المعنى ونصر المؤمنين مع أن المقصود أن وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفقهم لاتباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشا ثابتي الجنان فجعل المؤمنون بذاتهم تأييدا