والمراد ( بآخرين من دونهم ) أعداء لا يعرفون المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيدا ويتربص بهم الدوائر مثل بعض القبائل . فقوله ( لا تعلمونهم ) أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام وقد علمتموهم الآن إجمالا أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ولكنكم تعلمون وجودهم إجمالا مثل المنافقين فالعلم بمعنى المعرفة ولهذا نصب مفعولا واحدا .
A E وقوله ( من دونهم ) مؤذن بأنهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ولذلك ذكر ( من دونهم ) بمعنى : من جهات أخرى لأن أصل ( دون ) أنها للمكان المخالف وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأن ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب ( آخرين ) .
وجملة ( الله يعلمهم ) تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرين فالخبر مستعمل في معناه الكنائي وهو تعقبهم والإغراء بهم وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنهم بمحل عناية الله فهو يحصي أعداءهم وينبههم إليهم .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوي أي تحقيق الخبر وتأكيده والمقصود تأكيد لازم معناه أما أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد وأما حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله ( لا تعلمونهم ) فلو قيل : ويعلمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .
وإذ قد كان إعداد القوة يستدعي إنفاقا وكانت النفوس شحيحة بالمال تكفل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه فقال ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ) . فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .
والتوفية : أداء الحق كاملا جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله وجعل على الإنفاق جزاء فسمي جزاءه توفية على طريقة الاستعارة المكنية وتدل التوفية على أنه يشمل الأجر في الدنيا مع أجر الآخرة ونقل ذلك عن ابن عباس .
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب وإنما الذي يوفى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله للإشارة إلى أن الموفى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنها مثله كما يقال : وفاه دينه وإنما وفاه مماثلا لدينه . وقريب منه قولهم : قضى صلاة الظهر وإنما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إما مجاز عقلي أو هو مجاز بالحذف .
والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحق لأن نقص الحق ظلم وتسمية النقص من الحق ظلما حقيقة . وليس هو كالذي في قوله تعالى ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) .
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) انتقال من بيان أحوال معاملة العدو في الحرب : من وفائهم بالعهد وخيانتهم وكيف يحل المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين . والأمر بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة وكفوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .
والجنوح : الميل وهو مشتق من جناح الطائر : لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه وهو جناح جانبه الذي ينزل منه قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش : .
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب فمعنى ( وإن جنحوا للسلم ) إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه كما يميل الطائر الجانح . وإنما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا فهذا مقابل قوله ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .
واللام في قوله ( للسلم ) واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم ميل حق أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره لأن حق ( جنح ) أن يعدى ( بإلى ) لأنه بمعنى مال الذي يعدى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض وفي الكشاف : أنه يقال جنح له وإليه