ووصف النبذ أو النابذ بأنه على سواء تمثيل بحال الماشي على طريق جادة لا التواء فيها فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى ( فقل آذنتكم على سواء ) وهذا كما يقال في ضده : هو يتبع بنيات الطريق أي يراوغ ويخاتل .
والمعنى : فانبذ إليهم نبذا واضحا علنا مكشوفا .
ومفعول ( انبذ ) محذوف بقرينة ما تقدم من قوله ( ثم ينقضون عهدهم ) وقوله ( وإما تخافن من قوم خيانة ) أي انبذ عهدهم .
وعدي ( انبذ ) ب ( إلى ) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم وقد فهم من ذلك لا يستمر على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنه لا يخونهم لأن أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنه لا يخونهم .
وجملة ( إن الله لا يحب الخائنين ) تذييل لما اقتضته جملة ( وإما تخافن من قوم خيانة ) إلخ تصريحا واستلزاما . والمعنى لأن الله لا يحبهم لأنهم متصفون بالخيانة فلا تستمر على عهدهم فتكون معاهدا لمن لا يحبهم الله ؛ ولأن الله لا يحب أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) في سورة النساء . وذكر القرطبي عن النحاس أنه قال " هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه " . قلت وموقع ( إن ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر وتقدم في غير موضع وهذا من نكت الأعجاز .
( ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ) تسلية للنبي A على ما أبدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر وطمأنة له وللمسلمين بأنهم سيدالون منهم ويأتون على بقيتهم وتهديد للعدو بأن الله سيمكن منهم المسلمين .
والسبق مستعار للنجاة ممن يطلب والتفلت من سلطته . شبه المتخلص من طالبه بالسابق كقوله تعالى ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ) وقال بعض بني فقعس : .
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب أي كأنك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى ( إنهم لا يعجزون ) أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن فما هي إلا نجاة في وقت قليل فهم لا يعجزون الله أو لا يعجزون المسلمين أي لا يصيرون من أفلتوا منه عاجزا عن نوالهم كقول إياس بن قبيصة الطائي : .
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعج زني بقعة من بقاعها وحذف مفعول ( يعجزون ) لظهور المقصود .
وقرأ الجمهور ( ولا تحسبن ) بالتاء الفوقية . وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص وأبو جعفر ( ولا يحسبن ) بالياء التحتية . وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحنا وهذا اجتراء منه على أولئك الأئمة وصحة روايتهم واحتج لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدل عليه قوله ( إنهم لا يعجزون ) أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا واحتج لها الزجاج بتقدير ( أن ) قبل ( سبقوا ) فيكون المصدر سادا مسد المفعولين وقيل : حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه والتقدير : ولا يحسبن حاسب .
وقوله ( إنهم لا يعجزون ) قرأه الجمهور بكسر همزة ( ( إنهم ) استئناف بياني جوابا عن سؤال تثيره جملة ( ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا ) وقرأ ابن عامر ( أنهم ) بفتح همزة ( أن ) على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي أي لأنهم لا يعجزون قال في الكشاف : كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح .
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) A E