" وأنا رسول من ورائي " . وقال وفد الأشعريين للنبي A " فمرنا بأمر نأخذ به ونخبر به من وراءنا " والمعنى : فاجعلهم مثلا وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ولأجل هذا الأمر نكل النبي A بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية فقتلهم رسول الله A بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .
وقد أمر الله رسوله A في هذا الأمر بالإغلاظ على العدو لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه فإنهم كانوا يستضعفون المسلمين فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم لأنهم استحقوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنه يصد أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شر الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدة كون الرسول A أرسل رحمة للعالمين لأن المراد أنه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدة على قليل منهم كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) .
وضمير الغيبة في ( لعلهم يذكرون ) راجع إلى ( من ) الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .
والتذكر تذكر حالة المثقفين في الحرب التي انجرت لهم من نقض العهد أي لعل من خلفهم يتذكرون ما حل بناقضي العهد من النكال فلا يقدموا على نقض العهد فآل معنى التذكر إلى لازمه وهو الاتعاظ والاعتبار وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .
( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاص بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم فأمره الله أن يرد إليهم عهدهم إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة .
والخوف توقع ضر من شيء وهو الخوف الحق المحمود . وإما تخيل الضر بدون أمارة فليس من الخوف وإنما هو الهوس والتوهم . وخوف الخيانة ظهور بوارقها . وبلوغ إضمارهم إياها بما يتصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسس أحوالهم كقوله تعالى ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة ) .
وقد تقدم عند قوله تعالى ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ) في سورة البقرة .
و ( قوم ) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم أي كل قوم تخاف منهم خيانة . والخيانة : ضد الأمانة وهي هنا : نقض العهد لأن الوفاء من الأمانة .
وقد تقدم معنى الخيانة عند قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ) في هذه السورة .
والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء . وقد مضى عند قوله تعالى ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) في سورة البقرة .
وإنما رتب نبذ العهد على خوف الخيانة دون وقوعها : لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقق وقوع الأمر المظنون لأنه إذا تريث ولاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر أو للتورط في غفلة وضياع مصلحة ولا تدار سياسة الأمة بما يدار به القضاء في الحقوق لأن الحقوق إذا فاتت كانت بليتها على واحد وأمكن تدارك فائتها . ومصالح الأمة إذا فاتت تمكن منها عدوها فلذلك علق نبذ العهد بتوقع خيانة المعاهدين من الأعداء ومن أمثال العرب : " خذ اللص قبل يأخذك " أي وقد علمت أنه لص .
و ( على سواء ) صفة لمصدر محذوف أي نبذا على سواء أو حال من الضمير في ( انبذ ) أي حالة كونك على سواء .
و ( على ) فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأن مدخولها مما شأنه أن يعتلي عليه . و ( سواء ) وصف بمعنى مستو كما تقدم في قوله تعالى ( سواء عليهم أ أنذرتهم ) في سورة البقرة . وإنما يصلح للاستواء مع معنى ( على ) الطريق فعلم أن ( سواء ) وصف لموصوف محذوف يدل عليه وصفه كما في قوله تعالى ( على ذات ألواح ) أي سفينة ذات ألواح . وقول النابغة : .
" كما لقيت ذات الصفا من حليفها أي الحية ذات الصفا .
A E