والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرهم من بعض قبائل المشركين وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي A ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) الآية وقد نقض عبد الله بن أبي ومن معه عهد النصرة في أحد فانخزل بمن معه وكانوا ثلث الجيش . وقد ذكر في أول سورة براءة عهد فرق من المشركين . وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأن الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين .
والتعبير في جانب نقضهم العهد بصيغة المضارع : للدلالة على أن ذلك يتجدد منهم ويتكرر بعد نزول هذه الآية وأنهم لا ينتهون عنه فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم ولذلك فرع عليه قومه ( فإما تثقفنهم في الحرب ) إلخ . فالتقدير : ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كل مرة .
والمراد ب ( كل مرة ) كل مرة من المرات التي يحق فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرر العهد أم لم يتكرر لأن العهد الأول يقتضي الوفاء كلما دعا داع إليه .
والأظهر أن هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر وقبل وقعة الخندق فالنقض الحاصل منهم حصل مرة واحدة وأخبر عنه بأنه يتكرر مرات وإن كانت نزلت بعد الخندق بأن امتد زمان نزول هذه السورة فالنقض منهم قد حصل مرتين والإخبار عنه بأنه يتكرر مرات هو هو فلا جدوى في ادعاء أن الآية نزلت بعد وقعة الخندق .
وجملة ( وهم لا يتقون ) إما عطف على الصلة أو على الخبر أو في محل الحال من ضمير ( ينقضون ) . وعلى جميع الاحتمالات فهي دالة على أن انتفاء التقوى عنهم صفة متمكنة منهم وملكة فيهم بما دل عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوى الحكم وتحقيقه كما تقدم في قوله ( فهم لا يؤمنون ) .
ووقوع فعل ( يتقون ) في حيز النفي يعم سائر جنس الأتقاء وهو الجنس المتعارف منه الذي يتهمم به أهل المروءات والمتدينون فيعم اتقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة ويعم اتقاء العار واتقاء المسبة واتقاء سوء السمعة . فإن الخيس بالعهد والغدر من القبائح عند جميع أهل الأحلام وعند العرب أنفسهم ولأن من عرف بنقض العهد عدم من يركن إلى عهده وحلفه فيبقى في عزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين فلم يعبأوا بما يجره نقض العهد من الأضرار لهم .
وإذ قد تحقق منهم نقض العهد فيما مضى وهو متوقع منهم فيما يأتي لا جرم تفرع عليه أمر الله رسوله A أن يجعلهم نكالا لغيرهم متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوه .
وجاء الشرط بحرف ( إن ) مزيدة بعدها ( ما ) لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ ( إن ) عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد . وفي شرح الرضي على الحاجبية عن بعض النحاة : لا يجيء ( إما ) إلا بنون التأكيد بعده كقوله تعالى ( فإما ترين ) . وقال ابن عطية في قوله ( فإما تثقفنهم ) دخلت النون مع إما : إما للتأكيد أو للفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إما زيد وإما عمرو .
وقلت : دخول نون التؤكيد بعد ( إن ) المؤكدة بما غالب وليس بمطرد فقد قال الأعشى : .
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما تحفى وننتعل فلم يدخل على الفعل نون التوكيد .
والثقف : الظفر بالمطلوب أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب أي انتصرت عليهم .
والتشريد : التطريد والتفريق أي : فبعد من خلفهم وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .
وجعلت ذوات المتحدث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبس بالهزيمة والنكال فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمراد أحوال الذوات مثل ( حرمت عليكم الميتة ) . وقد علم أن متعلق تشريد من خلفهم هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .
والخلف : هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتباع ونظيره " الوراء " . في قول ضمام ابن ثعلبة : A E