وأما الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا دونه في سورة آل عمران فلأنه قصد هنا التعريض بالمشركين وكانوا ينكرون قوة الله عليهم بمعنى لازمها : وهو إنزال الضر بهم وينكرون أنه شديد العقاب لهم فأكد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين وفي سورة آل عمران لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله عقبه : ( قل للذين كفروا ستغلبون ) الآية .
وزيد وصف " قوي " هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد . والقوي الموصوف بالقوة وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك .
وقد تقدم عند قوله تعالى ( فخذها بقوة ) في سورة الأعراف . وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهم منتهى القدرة على فعل ما تتعلق به إراداته تعالى من الممكنات . والمقصود من ذكر هذين الوصفين : الإيماء إلى أن أخذهم كان قويا شديدا لأنه عقاب قوي شديد العقاب كقوله ( فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وقوله إن أخذه أليم شديد ) .
( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) استئناف بياني . والإشارة إلى مضمون قوله ( فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ) أي ذلك المذكور بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم .
والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه وبالخبر . والتسبيب يقتضي أن آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة وأن ذلك جرى على سنة الله أنه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ذلك بأنفسهم وأن قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) .
وهذا إنذار لقريش يحل بهم مثل ما حل بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة . فقوله ( لم يك مغيرا ) مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
" والتغيير " تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديل صورة جسم كما يقال : غيرت داري ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغة وكأنه مشتق من الغير وهو المخالف فتغيير النعمة إبدالها بضدها وهو النقمة وسوء الحال أي تبديل حالة حسنة بحالة سيئة .
ووصف النعمة ب ( أنعمها على قوم ) للتذكير بأن أصل النعمة من الله .
و ( ما بأنفسهم ) موصول وصلة والباء للملابسة أي ما أستقر وعلق بهم . وما صدق ( ما ) النعمة التي أنعم عليهم كما يؤذن به قوله ( مغيرا نعمة أنعمها على قوم ) والمراد بهذا التغيير تغيير سببه . وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران .
ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها فذلك تغيير ما كانوا عليه ؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل " نينوى " وإذا كذبوا وبطروا النعمة غير الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة . فالغاية المستفادة من ( حتى ) لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متسعة لأن الأقوام إذا غيروا ما بأنفسهم من هدى أمهلهم الله زمنا ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصروا على الكفر غير نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذل أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلط عليهم الأشوريين .
و ( أن الله سميع عليم ) عطف على قوله ( بأن الله لم يك مغيرا ) أي ذلك بأن الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم . وذكر صفة ( سميع ) قبل صفة ( عليم ) يومئ إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرض بهم متعلق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى .
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) A E