ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله ( ولكن الله سلم ) دون أن يقول : ولكنه سلم لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله وانه بعنايته واهتماما بهذا الحادث .
وجملة ( إنه عليم بذات الصدور ) تذييل للمنة أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر مما تتأثر بالاعتقادات فعلم أنه لو أخبركم بأن المشركين ينهزمون واعتقدتم ذلك لصدق ايمانكم لم يكن ذلك الاعتقاد مثيرا في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره اعتقادي أن عددهم قليل لأن الاعتقاد بأنهم ينهزمون لا ينافي توقع شدة تنزل بالمسلمين من موت وجراح قبل الانتصار فإما اعتقاد قلة العدو فإنها تثير في النفوس إقداما واطمئنان بال فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلا .
ومعنى ( ذات الصدور ) الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس فالصدور أطلقت على ما حل فيها من النوايا والمضمرات فكلمة ( ذات ) بمعنى صاحبة وهي مؤنث " ذو " أحد الأسماء الخمسة فأصل ألفها الواو ووزنها " ذوت " انقلبت واوها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها قال في الكشاف في تفسير سورة فاطر في قوله تعالى ( إن الله عليم بذات الصدور ) هي تأنيث ذو وذو موضوع لمعنى الصحبة من قوله : لتغني عني ذا إنائك أجمعا يعني إن ذات الصدور الحالة التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتها فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهم به المرء وما يدبره ويكيده .
( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ) ( وإذ يريكموهم ) عطف على ( إذ يريكهم الله ) وهذه رؤية بصر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر فكانت خطأ من الفريقين ولم يرها النبي A ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي في قوله ( إذ يريكهم الله ) وجعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجمعين وظاهر الجمع يعم النبي A فيحض من العموم . أرى الله المسلمين أن المشركين قليلون وأرى المشركين أن المسلمين قليلون . خيل الله لكلا الفريقين قلة الفريق الآخر بإلقاء ذلك التخيل في نفوسهم وجعل الغاية من تينك الرؤيتين نصر المسلمين وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين وجعل للأثرين المختلفين أثرا متحدا فكان تخيل المسلمين قلة المشركين مقويا لقلوبهم وزائدا لشجاعتهم ومزيلا للرعب عنهم فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء لأنهم ما كان ليفل من بأسهم إلا شعورهم بأنهم أضعف من أعدائهم عددا وعددا فلما أزيل ذلك عنهم بتخييلهم قلة عدوهم خلصت أسباب شدتهم مما يوهنها . وكان تخيل المشركين قلة المسلمين أي كونهم أقل مما هم عليه في نفس الأمر بردا على غليان قلوبهم من الغيظ وغارا إياهم بأنهم سينالون التغلب عليهم بأدنى قتال فكان صارفا إياهم عن التأهب لقتال المسلمين حتى فاجأهم جيش المسلمين فكانت الدائرة على المشركين فنتج عن تخيل القلتين انتصار المسلمين .
وإنما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطا عزيمتهم كما كان تخيل المشركين قلة المسلمين مثبطا عزيمتهم لأن المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقا على المشركين وإيمانا بفساد شركهم وامتثالا أمر الله بقتالهم فما كان بينهم وبين صب بأسهم على المشركين إلا صرف ما يثبط عزائمهم . فأما المشركون فكانوا مزهدين بعدائهم وعنادهم وكانوا لا يرون المسلمين على شيء فهم يحسبون أن أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضا فلذلك لا يعبؤون بالتأهب لهم فكان تخييل ما يزيدهم تهاونا بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم .
قال أهل السير : كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلا فقد قال أبو جهل لقومه وقد حزر المسلمين : إنما هم أكلة جزور أي قرابة المائة وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر .
A E