وقد حكاها النبي A للمسلمين فأخذوها على ظاهرها لعلمهم أن رؤيا النبي وحي وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائب وقد يكون صرفه عن ذلك فظن كالمسلمين ظاهرها وكل ذلك بالحكمة . فرؤيا النبي A لم تخطيء ولكنها أوهمتهم قلة العدد لأن ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل وهو تحقق النصر ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبي لا تخطيء ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وهذا هو الغالب وخاصة قبل ابتداء نزول الملك بالوحي وقد تكون رؤيا النبي A رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بقرا تذبح ويقال له : الله خير . فلم يعلم المراد حتى تبين له أنهم المؤمنون الذين قتلوا يوم أحد . فلما أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيه المشركين قليلا كناية بأحد أسباب الانهزام فإن الانهزام يجيء من قلة العدد . وقد يمسك النبي E عن بيان التعبير الصحيح لحكمة كما في حديث تعبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قص رؤياه على رسول الله A وقول النبي له ( أصبت بعضا وأخطأت بعضا ) وأبى أن يبين له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليخبر المؤمنين بأنهم غالبون المشركين لآمنوا بذلك إيمانا عقليا لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ولو لم يخبره ولم يره تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون المشركين حسابا كبيرا . لأنهم معروفون عندهم بأنهم أقوى من المسلمين بكثير .
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .
والقليل هنا قليل العدد بقرينة قوله ( كثيرا ) . أراه الله إياهم قليلي العدد وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف فإن لغة العقول والأرواح أوسع من لغة المخاطب لأن طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .
وأخبر ب ( قليلا ) و ( كثيرا ) وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدم عند قوله تعالى ( معه ربيون كثير ) في سورة آل عمران .
ومعنى ( ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) أنه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين لدخل قلوب المسلمين الفشل أي إذا حدثهم النبي بما رأى فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع وإن كان النصر مضمونا لهم .
فإن قلت : هذا يقتضي أن الإرادة كانت متعينة ولم لم يترك الله إراءته جيش العدو فلا تكون حاجة إلى تمثيلهم بعدد قليل قلت : يظهر أن النبي A رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدو فحقق الله رجاءه وجنبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين أو لعل المسلمين سألوا رسول الله A أن يستعلم ربه عن حال العدو .
والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدو من ثبات أو انجلاء عن القتال .
والتعريف في " الأمر " وهو أمر القتال وما يقتضيه .
والاستدراك في قوله ( ولكن الله سلم ) راجع إلى ما في جملة ( ولو أراكهم كثيرا ) من الإشعار بأن العدو كثير في نفس الأمر وأن الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر وهو الأكثر في مرائي الأنبياء وقد تحاكي المعنى الرمزي وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء مثل رؤيا ملك مصر سبع بقرات ورؤيا صاحبي يوسف في السجن وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي A أنه هز سيفا فانكسر في يده فمعنى الاستدراك رفع ما فرض في قوله ( ولو اراكهم كثيرا ) . فمفعول ( سلم ) ومتعلقه محذوفان إيجازا إذ دل عليه قوله ( لفشلتم ولتنازعتم ) والتقدير : سلمكم من الفشل والتنازع بان سلمكم من سببهما وهو إراءتكم واقع عدد المشركين لأن الاطلاع على كثرة العدو يلقي في النفوس تهيبا له وتخوفا منه وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفر لهم منتهى الشجاعة .
A E