فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثا عظيما متصفا منذ القدم بأنه محقق الوقوع عند إبانه أي حقيقيا بات يفعل حتى كأنه قد فعل لأنه لا يمنعه ما يحف به من الموانع المعتادة .
وجملة ( ليهلك من هلك عن بينة ) في موضع بدل الاشتمال من جملة ( ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) لأن الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحفه من الأحوال الدالة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بينه للفريقين تقطع عذر الهالكين وتقتضي شكر الأحياء . ودخول لام التعليل على فعل ( يهلك ) تأكيد للام الداخلة على ليقضي ) في الجملة المبدل منها . ولو لم تدخل اللام لقيل : يهلك مرفوعا .
A E والهلاك : الموت والاضمحلال ولذلك قوبل بالحياة . والهلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ولمعنى نهوض الأمة وقوتها لأن حقيقة الهلاك الموت وهو أشد الضر فلذلك يشبه بالهلاك كل ما كان ضرا شديدا قال تعالى ( يهلكون أنفسهم ) وبضده الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوبا قال تعالى ( لتنذر من كان حيا ) وقد جمع التشبيهين قوله تعالى ( أفمن كان ميتا فأحييناه ) . فإن الكفار كانوا في عزة ومنعة وكان المسلمون في قلة فلما قضي الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا وصار أمر المسلمين إلى جدة ونهوض وكان كل ذلك عن بينة أي عن حجة ظاهرة تدل على تأييد الله قوما وخذله آخرين بدون ريب .
ومن البعيد حمل ( يهلك ) ( ويحيى ) على الحقيقة لأنه وإن تحمله المعنى في قوله ( ليهلك من هلك ) فلا يتحمله في قوله ( ويحيى من حيى ) لان حياة الأحياء ثابتة لهم من قبل يوم بدر .
ودل معنى المجاوزة الذي في ( عن ) على أن المعنى أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بينة وبارزين منها .
وقرأ نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف : ( حيي ) بإظهار الياءين وقرأه البقية : ( حي ) بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان .
و ( عن ) للمجاوزة المجازية وهي بمعنى " بعد " أي : بعد بينة يتبين بها سبب الأمرين : هلاك من هلك وحباة من حيى .
وقوله ( وإن الله لسميع عليم ) تذييل يشير إلى أن الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها وغير ذلك وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم .
( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أريكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ) ( إذ يريكهم الله ) بدل من قوله ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) فإن هذه الرؤيا مما اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدة نزول المسلمين بالعدوة من بدر فهو بدل من بدل .
والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .
ويتعلق قوله ( في منامك ) بفعل ( يريكهم ) فالإرادة إرادة رؤيا وأسندت الإرادة إلى الله تعالى لأن رؤيا النبي A وحي بمدلولها كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وابنه ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ) فإن أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث فما رؤياهم إلا مكاشفات روحانية على عالم الحقائق .
وكان النبي A قد رأى رؤيا منام جيش المشركين قليلا أي قليل العدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجعوا للقاء المشركين وحملوها على ظاهرها وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر وكانت تلك الرؤيا منة من الله على رسوله والمؤمنين وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزا وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلة عددهم .
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي لأن صور المرائي المنامية تكون رموزا لمعان فلا تعد صورتها الظاهرية خلفا بخلاف الوحي بالكلام .
A E