والوصف بالدنيا والقصوى يشعر المخاطبون بفائدته وهي أن المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى لأنها اصلب أرضا فليس للوصف بالدنو والقصو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ولكنه صادف أن كانت القصوى أسعد بنزول الجيش فلما سبق جيش المشركين إليها اغتم المسلمون فلما نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دهسا فلبد المطر الأرض ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطلهم عن الرحيل فلم يبلغوا بدرا إلا بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء فاتخذوا حوضا يكفيهم وغوروا الماء فلما وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء .
وضمير ( وهم ) عائد إلى ما في لفظ ( الجمعان ) من معنى : جمعكم وجمع المشركين فلما قال ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) لم يبق معاد لضمير ( وهم ) إلا الجمع الآخر وهو جمع المشركين .
( والركب ) هو ركب قريش الراجعون من الشام وهو العير ( أسفل ) من الفريقين أي أخفض من منازلهما لأن العير كانوا سائرين في طريق الساحل وقد تركوا ماء بدر عن يسارهم . ذلك أن أبا سفيان لما بلغه أن المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمر ببدر وسلك طريق الساحل لينجو بالعير فكان مسيره في السهول المنخفضة وكان رجال الركب أربعين رجلا .
A E والمعنى : والركب بالجهة السفلى منكم وهي جهة البحر وضمير ( منكم ) خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) والمعنى أن جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا فلو علم العدو بهذا الوضع لطبق جماعتيه على جيش المسلمين ولكن الله صرفهم عن التفطن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدو .
وانتصب ( أسفل ) على الظرفية المكانية وهو في محل رفع خبر عن الركب أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع .
والغرض من التقييد بهذا الوقت وبتلك الحالة : احضارها في ذكرهم لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله ومن حسن الظن بوعده والاعتماد عليه في أمورهم فإنهم كانوا حينئذ في أشد ما يكون فيه جيش تجاه عدوه لأنهم يعلمون أن تلك الحالة كان ظاهرها ملائما للعدو إذ كان العدو في شوكة واكتمال عدة وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسطة الصلابة فأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدو في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رملها مع قلة مائها وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلت وراء ظهور جيش المشركين فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون وكان المشركون واثقين بمكنة الذب عن عيرهم فكانت ظاهرة هذه الحالة ظاهرة خيبة وخوف للمسلمين وظاهرة فوز وقوة للمشركين فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رأسا على عقب فأنزل من السماء مطرا تعبدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم وتطهروا وسقوا وصارت به الأرض لجيش المشركين وحلا يثقل فيها السير وفاضت المياه عليهم وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدوا للحرب عدتها وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب فجعل الله ذلك سببا لنصر المسلمين عليهم ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقعونه . فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) الآية ولذلك تعين على المفسر وصف الحالة التي تضمنتها الآية ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى .
وجملة ( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) في موضع الحال من ( الجمعان ) وعامل الحال فعل ( التقى ) أي في حال لقاء على غير ميعاد قد جاء ألزم مما لو كان على ميعاد فإن اللقاء الذي يكون موعودا قد يتأخر فيه أحد المتواعدين عن وقته وهذا اللقاء قد جاء في إبان متحد وفي مكان متجاور متقابل