وأسند الفعل في الجملة المحكية بالقول إلى ضمير الغائبين لأنه حكاية بالمعنى روعي فيها جانب المخاطب بالأمر تنبيها على أنه ليس حظه مجرد تبليغ مقالة فجعل حظه حظ لمخبر بالقضية الذي يراد تقررها لديه قبل تبليغها وهو إذا بلغ إليهم يبلغ إليهم ما أعلم به وبلغ اليه فيكون مخبرا بخبر وليس مجرد حامل لرسالة .
A E والمراد بالانتهاء : الانتهاء عن شيء معلوم دل عليه وصف الكفر هنا وما تقدمه من أمثاله وآثاره من الإنفاق للصد عن سبيل الله أي إن ينتهوا عن ذلك وإنما يكون الانتهاء عن ذلك كله بالإيمان .
و ( ما قد سلف ) هو ما أسلفوه من الكفر وآثاره وهذا وإن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين فهو شامل كل كافر لتساوي الحال .
ولفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة وذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة ويلحق به هنا عذاب الله في الدنيا لقوله فقد قضت سنة الأولين .
واستنبط أئمتنا من هذه الآية أحكاما للأفعال والتبعات التي قد تصدر من الكافر في حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يسقط عنه إسلامه التبعات بها .
وذلك يرجع إلى ما استقريته واصلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها وتراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير فروى ابن العربي في الأحكام أن ابن القاسم . وأشهب وابن وهب رووا عن مالك في هذه الآية : أن من طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه ومن حلف يمينا ثم أسلم فلا حنث عليه فيها وروى عن مالك : إنما يعني D ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء . قال ابن العربي وهو الصواب لعموم قوله ( إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) وان ابن القاسم وابن وهب رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد . ولو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقا لله محضا وما كان فيه حق للناس .
وذكر القرطبي عن ابن المنذر : أنه حكى مثل ذلك عن الشافعي وأنه احتج بهذه الآية وفي المدونة تسقط عنه الحدود كلها .
وذكر في الكشاف عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين واحتج بهذه الآية وفي كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا وحكوا في المرتد إذا تاب وعاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فاته من الصلاة ولا غرم ما أصاب من جنايات ومتلفات وعن الشافعي يلزم ذلك كله وهو ما نسبه ابن العربي إلى الشافعي بخلاف ما نسبه إليه ابن المنذر كما تقدم وعن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو لله ولا يسقط عنه حق الناس وحجة الجميع هذه الآية تعميما وتخصيصا بمخصصات أخرى .
وفي قوله تعالى ( إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) محسن بديعي وهو الاتزان لأنه في ميزان الرجز .
والمراد بالعود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول A والمسلمين والتجهز لحربهم . مثل صنعهم يوم بدر . وليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله ( إن ينتهوا ) تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما وهذا كقول العرب بعضهم لبعض : " أسلم أنت أم حرب " ولان الذين كفروا لما يفارقوا الكفر بعد فلا يكون المراد بالعود عودهم إلى الكفر بعد أن يسلموا .
والسنة العادة المألوفة والسيرة وقد تقدم في قوله تعالى ( قد خلت من قبلكم سنن ) في آل عمران .
ومعنى مضت تقدمت وعرفها الناس .
وهذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون والقرينة على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار يمضي سنة الأولين هو من الإخبار بشيء معلوم للمخبرين به وبهذا الاعتبار حسن تأكيده بقد إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي .
وبهذا الاعتبار صح وقوع قوله ( فقد مضت سنة الأولين ) جزاء للشرط ولولا ذلك لما كان بين الشرط وجوابه ملازمة في شيء .
والأولون : السابقون المتقدمون في حالة والمراد هنا الأمم التي سبقت وعرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل الله فلقوا عذاب الاستئصال مثل عاد وثمود قال تعالى ( فهل ينظرون إلا سنة الأولين )