كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى جهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بأصرح عبارة وهذا كقول عويف القوافي .
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا لقصد زيادة تشنيع وبر المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيها بليغا .
وعرفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر . فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم .
وليميز متعلق ب ( يحشرون ) لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر لأن العلة غير المؤثرة تكون متعددة فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحكم لحشر الكافرين إلى جهنم .
وقرأ الجمهور ( ليميز ) بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية مضارع ماز بمعنى فرز وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف : بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية . مضارع ميز إذا محص الفرز وإذ أسند هذا الفعل إلى الله تعالى استوت القراءتان .
والخبيث الشيء الموصوف بالخبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروها مثل القذر والوسخ ويطلق الخبث مجازا على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيها للمعقول بالمحسوس وهو مجاز مشهور والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال والطيب الموصوف بالطيب ضد الخبث بإطلاقيه فالكفر خبث لان أساسه الاعتقاد الفاسد فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقائقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها ثم أن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليب حقائق الأمور وما من ضلالة إلا وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها والإيمان بخلاف ذلك .
و ( من ) في قوله ( من الطيب ) للفصل وتقدم بيانها عند قوله تعالى ( والله يعلم المفسد من المصلح ) في سورة البقرة .
وجعل الخبيث بعضه على بعض : علة أخرى لحشر الكافرين إلى جهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد لزيادة تمييزه عن الطيب ولتشهير من كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإيمان . وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام اذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا ركاما .
والركم : ضم شيء أعلى إلى أسفل منه وقد وصف السحاب بقوله ( ثم يجعله ركاما ) .
واسم الإشارة ب ( أولئك هم الخاسرون ) للتنبيه على أن استحقاقهم الخبر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة فان من كانت تلك حالة كان حقيقا بأنه قد خسر اعظم الخسران لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة .
فصيغة القصر في قوله ( هم الخاسرون ) هي للقصر الادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس .
( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين [ 38 ] ) جرى هذا الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والوعيد بالوعد والعكس فأنذرهم بما أنذر وتوعدهم بما توعد ثم ذكرهم بأنهم متمكنون من التدارك وإصلاح ما أفسدوا فأمر الله نبيه A بأن يقول لهم ما يفتح لهم باب الإنابة .
والجملة استئناف يصح جعله بيانيا لأن ما تقدم بين يديه من الوعيد وقلة الاكتراث بشأنهم وذكر خيبة مساعيهم مما يثير في أنفس بعضهم والسامعين أن يتساءلوا عما إذا بقي لهم مخلص ينجيهم من ورطتهم التي ارتبقوا فيها فأمر الرسول بان يقول لهم هذا المقال ليريهم أن باب التوبة مفتوح والإقلاع في مكنتهم