وجملة ( وأنتم تعلمون ) في موضع الحال من ضمير تخونوا الأول والثاني وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي أو تشنيع المنهي عنه لان النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنع فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه ) وقوله ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها لأن ذلك قليل الجدوى فان كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم .
ولك أن تجعل فعل ( تعلمون ) منزلا منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول فيكون معناه " وأنتم ذوو علم " أي معرفة حقائق الأشياء أي وأنتم علماء لا تجهلون الفرق بين المحاسن والقبائح فيكون كقوله ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنت تعلمون ) في سورة البقرة .
ولك أن تقدر له هنا مفعولا دل عليه قوله ( وتخونوا أماناتكم ) أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فان المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية .
وابتداء جملة ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) بفعل ( اعلموا ) للاهتمام كما تقدم آنفا عند قوله ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) وقوله ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرء حب المال وهي خيانة الغلول وغيرها فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام .
وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة فان غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لأبنائهم من بعدهم وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير ونجده في القرآن قيل إن هاته الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة .
وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصرا ادعائيا لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة .
وجعل نفس ( الأموال والأولاد ) فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة .
وعطف قوله ( وأن الله عنده أجر عظيم ) على قوله ( أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد .
( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم [ 29 ] ) استئناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ) الآية وما بعده من الآيات إلى هنا .
وافتتح بالنداء للاهتمام كما تقدم آنفا .
وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفا في نظائره وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى .
ففعل الشرط مراد به الدوام فإنهم كانوا متقين ولكنهم لما حذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك .
ولقد بدا حسن المناسبة إذ رتبت على المنهيات تحذيرات من شرور وأضرار من قوله ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم ) وقوله ( واتقوا فتنة ) الآية ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل .
A E