وتشمل الخيانة كل معصية خفية فهي داخلة في لا تخونوا لأن الفعل في سياق النهي يعم فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى لينتفلوا منهم تعين تحذيرهم من الغلول فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها .
وفعل " الخيانة " أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه يقال خان فلانا أمانته أو عهده وأصله أنه نصب على نزع الخافض أي خانه في عهده أو في أمانته فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء واقتصر على المخون فيه في قوله ( وتخونوا أماناتكم ) أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم .
والنهي عن خيانة الأمانة هنا : إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة : أن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ من الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسرا لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء إذ هو مبعوث وليس بمستشار .
وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي إلى ذكر المفعول المتسع فيه لقصد تبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس فما يكون نقضا له يكون قبيحا فظيعا ولأجل هذا لم يقل وتخونوا الناس في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز .
والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن لأنه يأمنه من أن يضيعها والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها بمنزلة قوله ( ولا تقتلوا أنفسكم ) دون : ولا تقتلوا النفس .
وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها وقد حذر النبي A من أضاعتها والتهاون بها وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين ففي صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله A حديثين : رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت على جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها فقال ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمرد حرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان .
" الوكت سواد يكون في البسر إذا قارب أن يصير رطبا والمجل غلظ الجلد من أثر العمل والخدمة ونفط تقرح ومنتبرا منتفخا " وقد جعلها النبي A من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وحسبك من رفع شأن الأمانة : أن كان صاحبها حقيقا بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين أمانة لهم ونصح ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة " ولو كان أبو عبيدة ابن الجراح حيا لعهدت إليه لقول رسول الله A له إنه أمين هذه الأمة " .
وقوله ( وتخونوا ) عطف على قوله ( لا تخونوا ) فهو في حيز النهي والتقدير : ولا تخونوا أماناتكم وإنما أعيد فعل ( تخونوا ) ولم يكتف بحرف العطف الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فان خيانتهم الله ورسوله نقض الوفاء لهما بالطاعة والامتثال وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه .
A E