واعلم أن ( لو ) الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل ( لو ) المشتهرة بين النحاة بلوا الصهيبية " بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول عمر بن الخطاب " " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " وذلك أن تستعمل ( لو ) لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم . فيأتي بجملة الشرط حينئذ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمون عند حصلها الجزاء لو كان ذلك مما يحتمل التخلف فقوله " لو لم يخف الله لم يعصه " المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنه من غضب الله . فليس المراد أنه خاف فعصى ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى . ومن هذا القبيل قوله تعالى ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعواد الشجر كله أقلاما . ل أن كلمات الله تنفد أن لم تكن الأشجار أقلاما والأبحر مدادا وكذا قوله تعالى ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان .
وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له ( لو ) وتصير ( لو ) في مجرد الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل وستجيء زيادة في استعمال ( لو ) الصهيبية عند قوله تعالى ( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) في هذه السورة .
فهكذا تقرير التلازم في قوله تعالى هنا ( ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتولوا لأن توليهم ثابت بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو سمعهم الله الإسماع المخصوص وهو إسماع الإفهام فكيف إذا لم يسمعوه .
وجملة ( وهم معرضون ) حال من ضمير تولوا وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن أعراضهم أي أعراضا لا يقول بعده وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل مصعب بن عمير .
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) إعادة لمضمون قوله ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ) الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك .
فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى ثم بيان أن حق المؤمنين الكمل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين وضرب لهم مثلا بكراهتهم الخروج إلى بدر ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنبوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال وجعل ذلك كله إقناعا لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عادا إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء فان في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية .
واختير في تعريفهم عند النداء وصف الإيمان ليومي إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذ أدعاهم .
والاستجابة : الإجابة فالسين والتاء فيها للتأكيد وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معين أو في الاعم فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء وتقدم ذلك عن قوله تعالى ( فاستجاب لهم ربهم ) في آل عمران .
A E