وحاصل المعنى : لو جبلهم الله على قبول الخير لجعلهم يسمعون أي يعملون بما يدخل اصماخهم من الدعوة إلى الخير فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق على انتفاء جنس الخير من نفوسهم فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناس الصفات وأشخاصها . وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم .
وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسه وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخير فاصبح قابلا للإرشاد والهدى فحق عليه انه قد علم الله فيه خيرا حينئذ فاسمعه فمثل ذلك مثل أبي سفيان إذ كان فيما قبل ليلة فتح مكة قائد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأدخل إلى النبي A وقال له أما آن لك أن تشهد أن لا اله إلا الله قال أبو سفيان " لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا " ثم قال له الرسول E " وأن تشهد أني رسول الله " فقال أما هذه ففي القلب منها شيء " فلم يكمل حينئذ إسماع الله إياه ثم تم في نفسه الخير فلم يلبث أن أسلم فأصبح من خيرة المسلمين .
وجملة ( ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) معطوفة على جملة ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم فانهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء ارتقى بالأخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا فتولوا وأعرضوا .
وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يلقى إليه فاهتدى وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريث على الكفر زمنا متفاوت الطول والقصر .
واعلم أن ليس عطف جملة ( ولو أسمعهم لتولوا ) على جملة ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) بمقصود منه تفرع الثانية على الأولى تفرع القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس لان ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الاقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوبا عربيا فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى ولا تجمع بينهما إلا مناسبة المعنى والغرض فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ولو كان النهار موجودا لدرجت الدواجن فانه قد ينتج : لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن بواسطة تدرج اللزومات في ذهن المحجوج تقريبا لفهمه فان ذلك بمنزلة التصريح بنتيجة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلة مقدمة قياس ثان فتطوى النتيجة لظهورها اختصارا وهذا ليس بأسلوب عربي إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدم وتال ثم يستدرك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم كقول أبي بن سلمى بن ربيعة يصف فرسه : .
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر وقول المعري : .
ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهن دوام أو بذكر مساوي نقيض المقدم كقول عمرو بن معد يكرب : .
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت فإن اجرار اللسان يمنع نطقه فكان في معنى ولكن الرماح تنطقني . والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء .
A E