والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف فأما الليل فهو زمن النوم والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى ( قم الليل إلا قليلا ) على أنها تدخل في عموم قوله ( ولا تكن من الغافلين ) .
فدل قوله ( ولا تكن من الغافلين ) على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولأحد للغفلة فإنها تحدد بحال الرسول A وهو أعلم بنفسه فان له أوقاتا يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جبلية كالطعام .
وهذا الأمر خاص بالرسول E وكل ما خص به الرسول E من الوجوب يستحسن للامة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم .
A E وقد تقدم أن نحو ( ولا تكن من الغافلين ) أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو : ولا تغفل لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبين للحالة المنهي عنها .
( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ 206 ] ) تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر ولذلك صدرت ( بان ) التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر لا لرد تردد أو إنكار لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة والمعنى : الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات .
والمراد ب ( الذين عند ربك ) الملائكة ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي A بالذكر : أن مرتبة الرسالة تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة فهذا التعليل بمنزلة أن يقال : اذكر ربك لان الذكر هو شأن قبيلك كقول ابن دارة سالم بن مسافع .
فإن تتقوا شرا فمثلكم اتقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة افضل من الرسل كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبق في هذا المعنى لكونه حاصلا منهم بالجبلة فهم مثل فيه ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة كان سموهم إلى تلك المرتبة أعجب واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر .
ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية : ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم .
و ( عند ) مستعمل مجازا في رفعة المقدار والحظوة الإلهية .
وقوله ( لا يستكبرون عن عبادته ) ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة والمقصود هو قوله ( ويسبحونه ) أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر .
واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله ( وله يسجدون ) للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره وهذا أيضا تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره والمضارع يفيد الاستمرار أيضا .
وهنا موضع سجود من سجود القرآن وهو أولها في ترتيب الصحف وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله أراد الرسول E أن ببادر بالتشبه بهم تحقيقا للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله