ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ولكنهم تأولوه على أمر الندب وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ولو قالوا المراد من قوله قرئ قراءة خاصة وهي أن يقرأه الرسول E على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم لكان أحسن تأويلا .
وفي تفسير القرطبي عن سعيد " ابن المسيب " : كان المشركون يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جوابا لهم وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا .
A E على أن ما تقدم من الإخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة . أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مسرا بالقراءة فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات .
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما ( قرئ ) و ( استمعوا ) والفعل لا عموم له في الإثبات .
ومعنى الشرط المستفاد من ( إذا ) يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات . وعموم الأزمان أو الأحوال لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين .
( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [ 203 ] ) إقبال بالخطاب على النبي A فيما يختص به بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة والمناسبة في هذا الانتقال إن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول E بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها فلما فزع الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول E أقبل على الكلام في حظ الرسول A من القرآن وغيره وهو التذكر الخاص به فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له وفي أوقات النهار المختلفة فجملة ( واذكر ربك ) معطوفة على الجمل السابقة من قوله ( إن وليي الله ) إلى هنا .
والنفس اسم للقوة التي بها الحياة فهي مرادفة الروح وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى ( تعلم ما في نفسي ) وقد مضى في سورة المائدة ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء ومنه قوله في الحديث القدسي في صحيح البخاري " وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم " فقابل قوله في نفسه بقوله في ملإ .
والمعنى : اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس .
والذكر حقيقة في ذكر اللسان وهو المراد هنا ويعضده قوله ( ودون الجهر من القول ) وذلك يشمل قراءة القرآن وغير القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك .
و ( التضرع ) التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مرادا به معناه الأصلي والكنائي ولذلك قوبل بالخفية في قوله ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) في أوائل هذه السورة وقد تقدم .
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة مثل الشدة ولما كانت الخيفة انفعالا نفسيا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يشعر بالمرء من يخافه فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله فمقابلتها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين فكأنه قيل تضرعا وإعلانا وخيفة وإسرارا .
وقوله ( ودون الجهر من القول ) هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر .
والغدو اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار .
والآصال جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب