ووصف الحمل ب ( خفيفا ) إدماج ثان وهو حكاية للواقع فان الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألما وليس المراد هنا حملا خاصا ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله لأن المراد بالزوجين جنسهما فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدئ خفيفا كالعدم ثم يتزايد رويدا رويدا حتى يثقل وفي الموطأ قال مالك وكذلك " أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف " الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه ( فبشرناها بإسحاق وقال حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ) .
وحقيقة المرور : الاجتياز ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى ( فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) أي : نسى دعاءنا وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله وقوله ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) .
وقال تعالى ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) .
فمعنى ( فمرت به ) لم تتفطن له ولم تفكر في شأنه وكل هذا حكاية للواقع وهو إدماج .
والأثقال ثقل الحمل وكلفته يقال أثقلت الحامل فهي مثقل وأثقل المريض فهو مثقل والهمزة للصيرورة مثل أورق الشجر فهو كما يقال أقربت الحامل فهي مقرب إذا قرب أبان وضعها .
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك الأطوار الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته وبلطفه بالإنسان .
وظاهر قوله ( دعوا الله ربهما ) أن كل أبوين يدعوان بذلك فان حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح سواء نطقا بذلك أم أضمراه في نفوسهما فإن مدة الحمل طويلة لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها وإنما يكون التمني منهم على الله فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية وبأنه هو خالق المخلوقات ومكونها ولا حظ للآلهة إلا في التصرفات في أحوال المخلوقات كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) في الأنعام .
وإن حمل ( دعوا ) على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر ببالهم الدعاء .
وإجراء صفة ( ربهما ) المؤذنة بالرفق والإيجاد للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله أي يذكر انه باللفظ أو ما يفيد مفاده ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتانا صالحا .
وجملة ( لئن آتيتنا صالحا ) مبينة لجملة ( دعوا الله ) .
و ( صالحا ) وصف جرى على موصوف محذوف وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : ( ذكرا ) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ) أي الذكور .
فالدعاء بأن يؤتيا ذكرا وأن يكون صالحا أي نافعا : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق وينذران : لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين .
ومعنى ( فلما آتاهما صالحا ) لما أتى من أتاه منهم ولدا صالحا وضمير ( جعلا ) للنفس ألواحدة وزوجها أي جعل الأبوان المشركان .
و ( الشرك ) مصدر شركه في كذا أي جعلا لله شركة والشركة تقتضي شريكا أي جعلا لله شريكا فيما آتاهما الله والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم إذ لا يجعل رشيد الرأي شريكا لأحد في ملكه وصنعه بدون حق فلذلك عرف المشروك فيه بالموصولية فقيل ( فيما آتاهما ) دون الإضمار بأن يقال : جعلا له شركا فيه : لما تؤذن به الصلة من فساد ذلك الجعل وظلم جاعله وعدم استحقاق المجعول شريكا لما جعل له وكفران نعمة ذلك الجاعل إذ شكر لمن لم يعطه وكفر من أعطاه وإخلاف الوعد المؤكد .
وجعل الموصول ( ما ) دون ( من ) باعتبار أنه عطية أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل .
A E