( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين [ 189 ] فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [ 190 ] ) جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله ( وإذ أخذ ربك من بني آدم ظهورهم ذرياتهم ) الآية وليست من القول المأمور به في قوله ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ) لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلم الرسول بالغيب وقد تم ذلك فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاما موجها من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم .
ومناسبة الانتقال جريان ذكر اسم الله في قوله ( إلا ما شاء الله ) وضمير الخطاب في ( خلقكم ) للمشركين من العرب لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر . وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ يخلق أصله وهو آدم وزوجه حواء تمهيدا للمقصود .
وتعليق الفعل باسم الجمع في مثله في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما أن يكون المراد الكل المجموعي أي جملة ما يصدق عليه الضمير أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفس آدم الذي تولد منه جميع البشر .
وثانيهما أن يكون المراد الكل الجميعي أي خلق كل أحد منكم من نفس واحدة فتكون النفس هي الأب أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وقوله فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) .
ولفظ ( نفس واحدة ) وحده يحتمل المعنيين لأن في كلا الخلقين امتنانا وفي كليهما اعتبارا واتعاظا .
وقد جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد وهو المأثور عن الحسن وقتادة ومشى عليه الفخر والبيضاوي وابن كثير والاصم وابن المنير والجباءي .
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمة ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالا كثيرا ونساء وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء .
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداما في ضميري ( تغشاها ) وما بعده إلى قوله ( فيما آتاهما ) وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين .
و ( من ) في قوله ( من نفس واحدة ) ابتدائية .
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل لأن المقصود جعل الأنثى زوجا للذكر لا الإخبار عن كون الله خلقها لأن ذلك قد علم من قوله ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) .
و ( من ) في قوله ( وجعل منها ) للتبعيض والمراد : من نوعها وقوله ( منها ) صفة ل ( زوجها ) قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بان جعل الزوج وهو الانثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان .
وقوله ( ليسكن إليها ) تعليل لما أفادته ( من ) التبعيضية .
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ففي ذلك منة الإيناس بها وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها فلو جعل الله التناسل حاصلا بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ولو جعله حاصلا بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه بحيث لا تنصرف إليه إلا للاضطرار بعد التأمل والتردد كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع وفرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان .
وصيغت هذه الكناية بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة .
وذكر الضمير المرفوع في فعلي ( يسكن وتغشى ) : باعتبار كون ما صدق المعاد وهو النفس الواحدة ذكرا . وأنث الضمير المنصوب في ( تغشاها ) والمرفوع في حملت ومرت : باعتبار كون ما صدق المعاد وهو زوجها أنثى : وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر .
A E