وإنما عطف قوله ( ولا ضرا ) مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا نعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالى ( ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ) في سورة الفرقان وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها والى التجنب لمواقع الأضرار فنفي أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من الغيب .
والاستثناء من مجموع النفع والضر والأولى جعله متصلا أي إلا ما شاء الله أن يملكنيه بان يعلمنيه ويقدرني عليه فان لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع ومن أسباب اتقاء الضر وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى وهي المسماة بالكسب فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول E إلى معرفة شيء مغيب اطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله تعالى ( إذ يريكهم الله في منامك ) إلى قوله ( ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) وقوله ( ولو كنت أعلم الغيب ) الخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شؤون غيره .
فحصل من مجموع الجملتين انه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا في عالم الشهادة وفي عالم الغيب وأنه لا يعلم شيئا من الغيب مما فيه نفعه وضره وما عداه .
والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير وتجنب السوء استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه أول ما يعلم وهو الغيب الذي يهم نفسه ولأن الله لو أراد اطلاعه على الغيب لكان القصد من ذلك إكرام الرسول A فيكون اطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي اطلاعه عليه فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى .
ودليل التالي في هذه القضيه الشرطية هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له بالسوء .
وجملة ( إن أنا إلا نذير وبشير ) من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن التبرؤ من أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبي فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفى عنه ما نفى فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات .
وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير هنا : لأن المقام خطاب المكذبين المشركين فالنذارة أعلق بهم من البشارة .
وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله تعالى ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) في سورة البقرة .
وقوله ( لقوم يؤمنون ) يتنازع تعلقه كل من نذير وبشير : لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم دون الذين جعلوا ديدنهم التكذيب والإعراض والمكابرة فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه ليشمل من تهيأ للإيمان حالا ومالا وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى وهذا على حد قوله تعالى ( إنما أنت منذر من يخشاها ) .
وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع وإيلاء وصف ( البشير ) بقوم يؤمنون إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو الأضداد المؤمنين أي المشركين وهذا المعنى مقصود على نحو قوله تعالى ( لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) .
وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة .
A E