وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله ( قل إنما علمها عند الله ) تأكيدا لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله ( إنما علمها عند ربي ) حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله ( قل إنما علمها عند الله ) تأكيدا لكونه حصرا حقيقيا وإبطالا لظن الذين يحسبون أن شان الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة فانها تتوهم الحقائق على غير ما هي عليه وتوقن بما يخيل إليها وتجعله أصولا تبني عليها معارفها ومعاملاتها وتجعلها حكما في الأمور إثباتا ونفيا وهذا فرط ضلالة وانه لضغث على إبالة بتشديد الباء وتخفيفها وقد حكي التاريخ القديم شاهدا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن " بختنصر " ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم فلما أجأبوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلا الآلهة غضب واغتاظ وأمر بقتلهم وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في " بابل " وهدده بالقتل أن لم ينبئه بصورة رؤياه ثم بتعبيرها وأن دانيال استنظره مدة وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه " عزريا " و " ميشاييل " و " حننيا " فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رآه الملك فأخبر دانيال الملك بذلك ثم عبر له فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال .
( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء أن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون [ 188 ] ) هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم وزيادة من التعليم للامة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها .
والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استئنافها الاهتمام بمضمونها كي تتوجه الأسماع إليها ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله ( قل إنما علمها عند ربي قل إنما علمها عند اله ) للاهتمام باستقلال المقول وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول E نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه ولذلك نفي عن نفسه معرفة أحواله المغيبة فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلا ما شاء الله .
في تفسير البغوي عن ابن عباس : أن أهل مكة قالوا يا محمد إلا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح عند الغلاء وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل منها إلى التي قد أخصبت فأنزل الله تعالى ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ) فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة وقد جمع رد القولين في قرن .
ومعنى الملك هنا الاستطاعة والتمكن وقد تقدم في بيانه عند قوله تعالى ( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) في سورة المائدة والمقصود منه هنا : ما يشمل العلم بالنفع والضر لأن المقام لنفي معرفة الغيب ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عمله .
وقدم النفع في الذكر هنا على الضر : لأن النفع أحب إلى الإنسان وعكس في آية المائدة لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم وأنها لا يخشى غضبها .
A E