ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة وانقراض هذا العالم فهو أجلهم وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفا من يوم الجزاء .
ومن بديع نظم هذه الآيات : أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنسب في نفس الأمر جيء مع فعلى القلب بصيغة القضية والخبر في قوله ( أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) وقوله ( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقا بأسماء الذوات في قوله ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) .
ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكار عليهم بطريقة الاستفهام التعجبي المفيد للاستعباد بقوله ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله E وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولا ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه .
و ( أي ) هنا اسم أشرب معنى الاستفهام وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة فإذا أشرب ( أي ) معنى الاستفهام كان للسؤال عن تعيين مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه ( أي ) طلبا لتعيينه فالمسؤول عنه بها مساو لمماثل له معروف فقوله ( فبأي حديث ) سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسؤول وسيأتي الكلام على ( أي ) عند قوله تعالى ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) في سورة القلم .
والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث .
وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ) ويطلق مجازا على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثا وهو أعم من المعنى الحقيقي .
( فالحديث ) هنا أن حمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن كما في قوله تعالى : ( فليأتوا بحديث مثله ) فيكون الضمير في قوله ( بعده ) بمعنى بعد ا لقرآن أي بعد نزوله وجاز أن يراد به دعوى محمد A الرسالة من عند الله وكلا الاحتمالين يناسب قوله ( أو لم يتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) .
والباء في قوله ( فبأي حديث ) على هذا باء التعدية لتعدية فعل ( يؤمنون ) وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) فيكون الضمير في قوله ( بعده ) عائدا على معنى المذكور أي ما ذكر من ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله تعالى ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فان طبن لكم عن شيء منه نفسا ) في سورة النساء أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعد أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك .
والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة ب ( يؤمنون ) . و ( بعد ) هنا مستعارة لمعنى غير لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى ( فمن يهديه من بعد الله ) وحمل بعد على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل ويخرج الكلام عن سواء السبيل .
( من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 186 ] ) هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامه فلا طمع لأحد في هديهم ولما كان هذا الحكم حاقا على من اتصف بالتكذيب وعدم التفكر في حال الرسول A وعدم النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله وفي توقع اقتراب استئصالهم كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقا غير معروف للناس وإنما ينفرد الله بعلمه ويطلع عليه رسوله E وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام .
وعطف جملة ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) على جملة ( من يضلل الله فلا هادي له ) للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي .
وتفسير ( نذرهم ) تقدم عند قوله تعالى ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ) في سورة الأنعام وتفسير ( طغيان ) و ( يعمهون ) تقدم عند قوله ( في طغيانهم يعمهون ) في سورة البقرة