والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان وذلك قصر إضافي هو قصر قلب أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون وفي هذا استغباء أو تسفيه لهم بان حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون . فدعوا هم جنونه : أما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة وأما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول .
( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون [ 185 ] ) ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم وهو ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية الله تعالى التي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بها . والمناسبة بين الكلامين : أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبه ( أجعل الآلهة إلها واحدا أن هذا لشيء عجاب ) .
وعدي فعل ( النظر ) إلى متعلقه بحرف الظرفية لأن المراد التأمل بتدبر وهو التفكر كقوله تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وتقول نظرت في شأني فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات وهي ظرفية مجازية .
والملكوت الملك العظيم وقد مضى عند قوله تعالى ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) في سورة الأنعام .
وأضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي ملك الله لهما فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى .
وعطف ( وما خلق الله من شيء ) على ( ملكوت ) فقسم النظر إلى نظر في عظيم ملك الله تعالى وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى فالنظر إلى عظمة السماوات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشرك .
وقوله ( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) معطوف على ( وما خلق الله من شيء ) .
و ( أن ) هذه هي أن المفتوحة الهمزة المشددة النون خففت فكان اسمها ضمير شأن مقدرا . وجملة : عسى أن يكون إلخ خبر ضمير الشأن .
و ( أن ) التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالبا في الاستعمال .
واسم ( يكون ) ضمير شأن أيضا محذوف لأن ما بعد ( يكون ) غير صالح لأن يعتبر اسما لكان والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم .
وصيغ الكلام على هذا النظم لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخطر في النفوس وأن يتحدث به الناس وأنه قد صار حديثا وخبرا فكأنه أمر مسلم مقرر .
وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد ولذلك يسمى : ضمير القصة اعتدادا بأن جملة خبره قد صارت شيئا مقررا ومما يقصه الناس ويتحدثون به .
ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل التخوف من ذلك .
والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء فما كان العاقل بالذي يحدث لقومه حادثا عظيما مثل هذا ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم وانه خالق المخلوقات فأيقنوا بأنه الإله الواحد فآل ذلك إلى تصديق الرسول E وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل الاحتمالات إلى الشك في ذلك فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم .
A E