والإلحاد الميل عن وسط الشيء إلى جانبه وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها ولما كان وسط الشيء يشبه به الحق والصواب استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد ويعدى حينئذ بفي لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للالحاد والاكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد ويقال لحد وألحد والأشهر ألحد .
وقرأ من عدا حمزة يلحدون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد المهموز وقرأه حمزة وحده : بفتح الياء والحاء من لحد المجرد .
وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بان المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها .
ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهرا من مظاهر الكفر وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له وهو الأحق بكمال مدلولها فانهم أنكروا الرحمان كما تقدم وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ولمز النبي E بأنه عدد الآلهة ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال فحق بان يسمى إلحادا لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد .
وهذا يناسب أن يكون حرف ( في ) من قوله ( في أسمائه ) مستعملا في معنى التعليل كقول النبي A " دخلت امرأة النار في هرة " الحديث وقول عمر بن أبي ربيعة : .
وعصيت فيك أقاربي فتقطعت ... بيني وبينهم عرى أسبابي وقد جوز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه : منها ثلاثة ذكرها الفخر وأنا لا أراها ملاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى كما لا يخفى عن الناظر فيها .
وجملة ( سيجزون ما كانوا يعملون ) تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين فلذلك فصلت أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم وسمي إلحادهم عملا لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم .
و ( ما ) موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه .
والسين للاستقبال وهي تفيد تأكيد .
وقيل ( ما كانوا يعملون ) دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم .
( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [ 181 ] والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ 182 ] وأملي لهم أن كيدي متين [ 183 ] ) عطف على جملة ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) الآية والمقصود : التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم أي عرض عن المشركين فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين فما صدق ( الأمة ) هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد : .
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها يريد نفسه فأنها بعض النفوس . روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي A كان يقول إذا قرأ الآية " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " .
وقوله ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) . وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة .
والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن . وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ) في سورة الأنعام .
والاستدراج مشتق من الدرجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرجل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيرا للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج وهي أيضا واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها وتسمى هذه الدرجة مرقاة فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب أي طلب منه أن يتدرج أي صاعدا أو نازلا والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة فانه مبني على تشبيه حسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان والقرينة تعين المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا .
A E