والسماء من أسماء المطر كما في حديث الموطأ من قول زيد بن خالد : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء أي عقب مطر . وهو المراد هنا لأنه المناسب لقوله ( أرسلنا ) بخلافه في نحو قوله ( وأنزلنا من السماء ماء ) . والمدرار صيغة مبالغة مثل منحار لكثير النحر للأضياف ومذكار لمن يولد له الذكور من درت الناقة ودر الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ولذلك سمي اللبن الدر . ووصف المطر بالمدرار مجاز عقلي وإنما المدرار سحابه . وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث .
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله . ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض وقد كانت حالة معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة كما علمه الله ودلت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ثم تغيرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حل سنين ببلاد عاد ؛ أو أرضية فصار معظمها قاحلا فهلكت أممها وتفرقوا أيادي سبا .
وقد تقدم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو ( أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) في سورة البقرة .
A E والفاء في قوله ( فأهلكناهم ) للتعقيب عطف على ( مكناهم ) وما بعده . ولما تعلق بقوله ( فأهلكناهم ) قوله ( بذنوبهم ) دل على أن تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا . فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ففيه إيجاز حذف على حد قوله تعالى ( أن أضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) الآية أي فضرب فانفجرت الخ . ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلا ل ( أهلكنا ) الأول على نحو قوله تعالى ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) في سورة الأعراف .
والإهلاك : الإفناء وهو عقاب للأمة دال على غضب الله عليها لأن فناء الأمم لا يكون إلا بما تجره إلى نفسها من سوء فعلها بخلاف فناء الأفراد فإنه نهاية محتمة ولو استقام المرء طول حياته لأن تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقابا إلا فيما يحف به من أحوال الخزي للهالك .
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك مما دل عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا ( بربهم يعدلون ثم أنتم تمترون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ) وما قاله بعد ذلك ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) الآية .
وقوله ( وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) : الإنشاء الإيجاد المبتكر قال تعالى ( إنا أنشأناهن إنشاء ) . والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان عليها القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا كما أنشأ قريشا في ديار جرهم أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثمودا بعد عاد في منازل أخرى . والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأن الله مهلكهم ومنشئ من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم . ففيه نذارة بفتح مكة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين . وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق لأن ذلك أمر مستمر في البشر لا ينتهي وليس فيه عظة ولا تهديد للجبابرة المشركين, وأفرد ( قرنا ) مع أن الفعل الناصب له مقيد بأنه من بعد جمع القرون على تقدير مضاف أي أنشأنا من بعد كل قرن من المهلكين قرنا آخرين .
( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 7 ] ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ) الخ وما بينهما جملا تعلقت بالجملة الأول ى على طريقة الاعتراض فلما ذكر الآيات في الجملة الأول ى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضح الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزل الله عليه كتابا من السماء على صورة الكتب المتعارفة فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لما آمنوا ولا دعوا أن ذلك الكتاب سحر